- عربي - نصوص الآيات عثماني : ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَٰلَمِينَ
- عربى - نصوص الآيات : الحمد لله رب العالمين
- عربى - التفسير الميسر : (الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ) الثناء على الله بصفاته التي كلُّها أوصاف كمال، وبنعمه الظاهرة والباطنة، الدينية والدنيوية، وفي ضمنه أَمْرٌ لعباده أن يحمدوه، فهو المستحق له وحده، وهو سبحانه المنشئ للخلق، القائم بأمورهم، المربي لجميع خلقه بنعمه، ولأوليائه بالإيمان والعمل الصالح.
- السعدى : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
{ الْحَمْدُ لِلَّهِ } [هو] الثناء على الله بصفات الكمال, وبأفعاله الدائرة بين الفضل والعدل, فله الحمد الكامل, بجميع الوجوه. { رَبِّ الْعَالَمِينَ } الرب, هو المربي جميع العالمين -وهم من سوى الله- بخلقه إياهم, وإعداده لهم الآلات, وإنعامه عليهم بالنعم العظيمة, التي لو فقدوها, لم يمكن لهم البقاء. فما بهم من نعمة, فمنه تعالى. وتربيته تعالى لخلقه نوعان: عامة وخاصة. فالعامة: هي خلقه للمخلوقين, ورزقهم, وهدايتهم لما فيه مصالحهم, التي فيها بقاؤهم في الدنيا. والخاصة: تربيته لأوليائه, فيربيهم بالإيمان, ويوفقهم له, ويكمله لهم, ويدفع عنهم الصوارف, والعوائق الحائلة بينهم وبينه, وحقيقتها: تربية التوفيق لكل خير, والعصمة عن كل شر. ولعل هذا [المعنى] هو السر في كون أكثر أدعية الأنبياء بلفظ الرب. فإن مطالبهم كلها داخلة تحت ربوبيته الخاصة. فدل قوله { رَبِّ الْعَالَمِينَ } على انفراده بالخلق والتدبير, والنعم, وكمال غناه, وتمام فقر العالمين إليه, بكل وجه واعتبار.
- الوسيط لطنطاوي : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
{ الحمد } هو الثناء باللسان على الجميل الصادر عن اختيار من نعمة أو غيرها.
{ رب العالمين } أي: مالكهم، إذ الرب مصدر " ربه يربه " إذا تعاهده بالتربية حتى يبلغ به شيئاً فشيئا درجة الكمال. وهو اسم من أسماء الله - تعالى - ولا يطلق على غيره إلا مقيداً فيقال: رب الدار، ورب الضيعة أي: صاحبها ومالكها.
والعالمين: جمع عالم، وهو كل موجود سوى الله - تعالى -
قال القرطبي: " وهو مأخوذ من العلم والعلامة لأنه يدل على موجده " وقيل: المراد بالعالمين أولو العلم من الإِنس والجن والملائكة.
وقد افتتحت سورة الفاتحة بهذه الجملة الكريمة { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } لأنه سبحانه أول كل شيء وآخر كل شيء، ولكي يعلمنا - سبحانه - أن نبدأ كتبنا وخطبنا بالحمد والثناء عليه، حتى نبدأ ونحن في صلة بالله تكشف عن النفوس أغشيتها، وتجلو عن القلوب أصداءها.
والمعنى - كما قال ابن جرير - " الشكر خالصاً لله - جل ثناؤه - دون سائر ما يعبد من دونه، ودون كل ما برأ من خلقه بما أنعم على عباده من النعم التى لا يحصيها العدد. ولا يحيط بعددها غيره أحد، في تصحيح الآلات لطاعته، وتمكين جوارح أجسام المكلفين لأداء فرائضه، مع ما بسط لهم في دنياهم من الرزق، وغذاهم به من نعيم العيش، عن غير استحقاق لهم عليه، ومع ما نبههم عليه ودعاهم إليه، من الأسباب المؤدية إلى دوام الخلود في دار المقام في النعيم المقيم. لربنا الحمد على ذلك كله أولا وآخراً.
فالآية الكريمة قد قررت بصراحة ووضوح ثبوت الثناء المطلق الذي لا يحد لله - تعالى - وانه ليس لأحد أن ينازعه إياه - سبحانه - هو رب العالمين.
وجملة { ٱلْحَمْدُ للَّهِ } مفيدة لقصر الحمد عليه - سبحانه - نحو قولهم: "
الكرم في العرب ". كما أن أل في " الحمد " للاستغراق. أي: أن جميع أجناس الحمد ثابتة لله رب العالمين.وإنما كان الحمد مقصوراً في الحقيقة على الله، لأن كل ما يستحق أن يقابل بالثناء فهو صادر عنه ومرجعه إليه، إذ هو الخالق لكل شيء، وما يقدم إلى بعض الناس من حمد جزاء إحسانهم، فهو في الحقيقة حمد لله، لأنه - سبحانه - هو الذي وفقهم لذلك وأعانهم عليه.
ولم تفتتح السورة بصيغة الأمر بأن يقال: احمدوا الله، وإنما افتتحت بصيغة الخبر { ٱلْحَمْدُ للَّهِ } ، لأن الأمر يقتضي التكليف: والتكليف قد تنفر منه النفوس أحياناً، فأراد - سبحانه - وهو يبادئهم بشرعة جديدة وتكاليف لم يعهدوها، أن يؤنس نفوسهم، ويؤلف قلوبهم، فساق لهم الخطاب بصيغة الخبر، ترفقا بهم، حتى يديموا الإِصغاء لما سيلقيه عليهم من تكاليف.
وقد تكلم بعض المفسرين عن الحكمة في ابتداء السورة الكريمة بقوله - تعالى - { ٱلْحَمْدُ للَّهِ } ، دون قوله - تعالى -: المدح لله، أو: الشكر لله. فقال:
اعلم أن المدح أعم من الحمد، والحمد أعم من الشكر. أما بيان أن المدح أعم من الحمد فلأن المدح يحصل للعاقل وغير العاقل، ألا ترى أنه كما يحسن مدح الرجل العاقل على أنواع فضائله، فكذلك قد يمدح اللؤلؤ لحسن شكله.
أما الحمد فإنه لا يحصل إلا للفاعل المختار على ما يصدر منه من الإِنعام والإِحسان، فثبت أن المدح أعم من الحمد.
وأما بيان أن الحمد أعم من الشكر، فلأن الحمد عبارة عن تعظيم الفاعل لأجل ما صدر عنه من الإِنعام. سواء أكان ذلك الإِنعام واصلا إليك أم إلى غيرك. وأما الشكر فهو عبارة عن تعظيمه لأجل إنعام وصل إليك، فثبت بما ذكرنا أن المدح أعم من الحمد، وأن الحمد أعم من الشكر.
إذا عرفت هذا فنقول: إنما لم يقل: المدح لله، لأننا بينا أن المدح كما يحصل للفاعل المختار فقد يحصل لغيره. وأما الحمد فإنه لا يحصل إلا للفاعل المختار. فكان قوله "
الحمد لله " تصريحاً بأن المؤثر في وجود هذا العالم فاعل مختار خلقه بالقدرة والمشيئة... وإنما لم يقل: الشكر لله، لأننا بينا أن الشكر عبارة عن تعظيمه بسبب إنعام صدر منه ووصل إليك، وهذا يشعر بأن العبد إذا ذكر تعظيمه بسبب ما وصل إليه من النعمة. فحينئذ يكون المطلوب الأصلى له وصول النعمة إليه. وهذه درجة حقيرة. فأما إذا قال " الحمد لله " ، فهذا يدل على أن العبد حمده لأجل كونه مستحقا للحمد لا لخصوص أنه - سبحانه - أوصل النعمة إليه، فيكون الإِخلاص أكمل، واستغراق القلب في مشاهدة نور الحق أتم، وانقطاعه عما سوى الحق أقوى وأثبت.وقد أجرى - سبحانه - على لفظ الجلالة نعت الربوبية للعالمين، ليكون كالاستدلال على استحقاقه - تعالى - للحمد وحده، وفى ذلك إشعار لعباده بأنهم مكرمون من ربهم، إذ الأمر بغير توجيه فيه إيماء إلى إهمال عقولهم، أما إذا كان موجهاً ومعللا فإنه يكون فيه إشعار لهم برعاية ناحية العقل فيهم، وفي تلك الرعاية تشريف وتكريم لهم.
فكأنه - سبحانه - يقول لهم: اجعلوا حمدكم وثناءكم لي وحدي. لأني أنا رب العالمين. وأنا الذي تعهدتكم برعايتي وتربيتي منذ تكوينكم من الطين حتى استويتم عقلاء مفكرين.
- البغوى : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
قوله: {الحمد لله}: لفظه خبر كأنه يخبر أن المستحق للحمد هو الله عز وجل وفيه تعليم الخلق تقديره قولوا الحمد لله، والحمد يكون بمعنى الشكر على النعمة، ويكون بمعنى الثناء عليه بما فيه من الخصال الحميدة. يقال: حمدت فلاناً على ما أسدى إلي من النعمة وحمدته على علمه وشجاعته، والشكر لا يكون إلا على النعمة، فالحمد أعم من الشكر إذ لا يقال شكرت فلاناً على علمه فكل حامد شاكر وليس كل شاكر حامداً.
وقيل: الحمد باللسان قولاً والشكر بالأركان فعلاً، قال الله تعالى: {وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً} [11 - الإسراء]، وقال: {اعملوا آل داود شكراً} [123 - سبأ].
قوله: {لله} اللام فيه للاستحقاق؛ كما يقال الدار لزيد.
قوله: {رب العالمين}: فالرب يكون بمعنى المالك؛ كما يقال لمالك الدار: رب الدار، ويقال: رب الشيء إذا ملكه، ويكون بمعنى التربية والإصلاح، يقال: رب فلان الضيعة يربها إذا أتممها وأصلحها فهو رب مثل طب، وبر.
فالله تعالى مالك العالمين ومربيهم، ولا يقال للمخلوق هو الرب مُعَرَّفاً إنما يقال رب كذا مضافاً، لأن الألف واللام للتعميم وهو لا يملك الكل.
و(العالمين) جمع عالم، لا واحد له في لفظه، واختلفوا في العالمين؛ قال ابن عباس:" هم الجن والإنس لأنهم المكلفون بالخطاب"، قال الله تعالى: {ليكون للعالمين نذيراً} [1 - الفرقان].
وقال قتادة ومجاهد والحسن: "هم جميع المخلوقات"، قال الله تعالى: {قال فرعون وما رب العالمين * قال رب السماوات والأرض وما بينهما} [23 - 24 الشعراء].
واشتقاقه من العلم والعلامة سموا به لظهور أثر الصنعة فيهم، قال أبو عبيد: "هم أربعة أمم: الملائكة، والإنس، والجن، والشياطين".
مشتق من العلم، ولا يقال للبهائم عالم لأنها لا تعقل، واختلفوا في مبلغهم، قال سعيد بن المسيب: "لله ألف عالم ستمائة في البحر وأربعمائة في البر".
وقال مقاتل بن حيان: "لله ثمانون ألف عالم أربعون ألفاً في البحر وأربعون ألفاً في البر".
وقال وهب: "لله ثمانية عشر ألف عالم الدنيا عالم منها، وما العمران في الخراب إلا كفسطاط في صحراء".
وقال كعب الأحبار: "لا يحصي عدد العالمين أحد إلا الله"، قال الله تعالى: {وما يعلم جنود ربك إلا هو} [31 - المدثر].
- ابن كثير : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
القراء السبعة على ضم الدال من قوله : ( الحمد لله وهو مبتدأ وخبر . وروي عن سفيان بن عيينة ورؤبة بن العجاج أنهما قالا الحمد لله بالنصب وهو على إضمار فعل ، وقرأ ابن أبي عبلة : ( الحمد لله بضم الدال واللام إتباعا للثاني الأول وله شواهد لكنه شاذ ، وعن الحسن وزيد بن علي : الحمد لله بكسر الدال إتباعا للأول الثاني .
قال أبو جعفر بن جرير : معنى الحمد لله الشكر لله خالصا دون سائر ما يعبد من دونه ، ودون كل ما برأ من خلقه ، بما أنعم على عباده من النعم التي لا يحصيها العدد ، ولا يحيط بعددها غيره أحد ، في تصحيح الآلات لطاعته ، وتمكين جوارح أجسام المكلفين لأداء فرائضه ، مع ما بسط لهم في دنياهم من الرزق ، وغذاهم به من نعيم العيش ، من غير استحقاق منهم ذلك عليه ، ومع ما نبههم عليه ودعاهم إليه ، من الأسباب المؤدية إلى دوام الخلود في دار المقام في النعيم المقيم ، فلربنا الحمد على ذلك كله أولا وآخرا .
[ وقال ابن جرير : الحمد لله ثناء أثنى به على نفسه وفي ضمنه أمر عباده أن يثنوا عليه فكأنه قال : قولوا : الحمد لله ] .
قال : وقد قيل : إن قول القائل : ( الحمد لله ، ثناء عليه بأسمائه وصفاته الحسنى ، وقوله : الشكر لله ثناء عليه بنعمه وأياديه ، ثم شرع في رد ذلك بما حاصله أن جميع أهل المعرفة بلسان العرب يوقعون كلا من الحمد والشكر مكان الآخر .
[ وقد نقل السلمي هذا المذهب أنهما سواء عن جعفر الصادق وابن عطاء من الصوفية . وقال ابن عباس : الحمد لله كلمة كل شاكر ، وقد استدل القرطبي لابن جرير بصحة قول القائل : الحمد لله شكرا ] .
وهذا الذي ادعاه ابن جرير فيه نظر ؛ لأنه اشتهر عند كثير من العلماء من المتأخرين أن الحمد هو الثناء بالقول على المحمود بصفاته اللازمة والمتعدية ، والشكر لا يكون إلا على المتعدية ، ويكون بالجنان واللسان والأركان ، كما قال الشاعر :
أفادتكم النعماء مني ثلاثة يدي ولساني والضمير المحجبا
ولكنهم اختلفوا : أيهما أعم ، الحمد أو الشكر ؟ على قولين ، والتحقيق أن بينهما عموما وخصوصا ، فالحمد أعم من الشكر من حيث ما يقعان عليه ؛ لأنه يكون على الصفات اللازمة والمتعدية ، تقول : حمدته لفروسيته وحمدته لكرمه . وهو أخص لأنه لا يكون إلا بالقول ، والشكر أعم من حيث ما يقعان عليه ، لأنه يكون بالقول والعمل والنية ، كما تقدم ، وهو أخص ؛ لأنه لا يكون إلا على الصفات المتعدية ، لا يقال : شكرته لفروسيته ، وتقول : شكرته على كرمه وإحسانه إلي . هذا حاصل ما حرره بعض المتأخرين ، والله أعلم .
وقال أبو نصر إسماعيل بن حماد الجوهري : الحمد نقيض الذم ، تقول : حمدت الرجل أحمده حمدا ومحمدة ، فهو حميد ومحمود ، والتحميد أبلغ من الحمد ، والحمد أعم من الشكر . وقال في الشكر : هو الثناء على المحسن بما أولاكه من المعروف ، يقال : شكرته ، وشكرت له . وباللام أفصح .
[ وأما المدح فهو أعم من الحمد ؛ لأنه يكون للحي وللميت وللجماد - أيضا - كما يمدح الطعام والمال ونحو ذلك ، ويكون قبل الإحسان وبعده ، وعلى الصفات المتعدية واللازمة أيضا فهو أعم ] .
ذكر أقوال السلف في الحمد
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو معمر القطيعي ، حدثنا حفص ، عن حجاج ، عن ابن أبي مليكة ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، قال : قال عمر : قد علمنا سبحان الله ، ولا إله إلا الله ، فما الحمد لله ؟ فقال علي : كلمة رضيها الله لنفسه .
ورواه غير أبي معمر ، عن حفص ، فقال : قال عمر لعلي ، وأصحابه عنده : لا إله إلا الله ، وسبحان الله ، والله أكبر ، قد عرفناها ، فما الحمد لله ؟ قال علي : كلمة أحبها [ الله ] لنفسه ، ورضيها لنفسه ، وأحب أن تقال .
وقال علي بن زيد بن جدعان ، عن يوسف بن مهران ، قال : قال ابن عباس : الحمد لله كلمة الشكر ، وإذا قال العبد : الحمد لله ، قال : شكرني عبدي . رواه ابن أبي حاتم .
وروى - أيضا - هو وابن جرير ، من حديث بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : أنه قال : الحمد لله هو الشكر لله والاستخذاء له ، والإقرار له بنعمه وهدايته وابتدائه وغير ذلك .
وقال كعب الأحبار : الحمد لله ثناء الله . وقال الضحاك : الحمد لله رداء الرحمن . وقد ورد الحديث بنحو ذلك .
قال ابن جرير : حدثني سعيد بن عمرو السكوني ، حدثنا بقية بن الوليد ، حدثني عيسى بن إبراهيم ، عن موسى بن أبي حبيب ، عن الحكم بن عمير ، وكانت له صحبة قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : إذا قلت : الحمد لله رب العالمين ، فقد شكرت الله ، فزادك .
وقد روى الإمام أحمد بن حنبل : حدثنا روح ، حدثنا عوف ، عن الحسن ، عن الأسود بن سريع ، قال : قلت : يا رسول الله ، ألا أنشدك محامد حمدت بها ربي ، تبارك وتعالى ؟ فقال : أما إن ربك يحب الحمد .
ورواه النسائي ، عن علي بن حجر ، عن ابن علية ، عن يونس بن عبيد ، عن الحسن ، عن الأسود بن سريع ، به .
وروى الترمذي ، والنسائي وابن ماجه ، من حديث موسى بن إبراهيم بن كثير ، عن طلحة بن خراش ، عن جابر بن عبد الله ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أفضل الذكر لا إله إلا الله ، وأفضل الدعاء الحمد لله . وقال الترمذي : حسن غريب .
وروى ابن ماجه عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما أنعم الله على عبد نعمة فقال : الحمد لله إلا كان الذي أعطى أفضل مما أخذ . وقال القرطبي في تفسيره ، وفي نوادر الأصول عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لو أن الدنيا بحذافيرها في يد رجل من أمتي ثم قال : الحمد لله ، لكان الحمد لله أفضل من ذلك . قال القرطبي وغيره : أي لكان إلهامه الحمد لله أكبر نعمة عليه من نعم الدنيا ؛ لأن ثواب الحمد لا يفنى ونعيم الدنيا لا يبقى ، قال الله تعالى : المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا [ الكهف : 46 ] . وفي سنن ابن ماجه عن ابن عمر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثهم : أن عبدا من عباد الله قال : يا رب ، لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك ، فعضلت بالملكين فلم يدريا كيف يكتبانها ، فصعدا إلى السماء فقالا يا رب ، إن عبدا قد قال مقالة لا ندري كيف نكتبها ، قال الله - وهو أعلم بما قال عبده - : ماذا قال عبدي ؟ قالا يا رب إنه قد قال : يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك . فقال الله لهما : اكتباها كما قال عبدي حتى يلقاني فأجزيه بها .
وحكى القرطبي عن طائفة أنهم قالوا : قول العبد : الحمد لله رب العالمين ، أفضل من قول : لا إله إلا الله ؛ لاشتمال " الحمد لله رب العالمين " على التوحيد مع الحمد ، وقال آخرون : لا إله إلا الله أفضل لأنها الفصل بين الإيمان والكفر ، وعليها يقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله كما ثبت في الحديث المتفق عليه وفي الحديث الآخر في السنن : أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي : لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وقد تقدم عن جابر مرفوعا : أفضل الذكر لا إله إلا الله ، وأفضل الدعاء الحمد لله . وحسنه الترمذي .
والألف واللام في الحمد لاستغراق جميع أجناس الحمد ، وصنوفه لله تعالى كما جاء في الحديث : اللهم لك الحمد كله ، ولك الملك كله ، وبيدك الخير كله ، وإليك يرجع الأمر كله الحديث .
رب العالمين والرب هو : المالك المتصرف ، ويطلق في اللغة على السيد ، وعلى المتصرف للإصلاح ، وكل ذلك صحيح في حق الله تعالى .
[ ولا يستعمل الرب لغير الله ، بل بالإضافة تقول : رب الدار ، رب كذا ، وأما الرب فلا يقال إلا لله عز وجل ، وقد قيل : إنه الاسم الأعظم ] . والعالمين : جمع عالم ، [ وهو كل موجود سوى الله عز وجل ] ، والعالم جمع لا واحد له من لفظه ، والعوالم أصناف المخلوقات [ في السماوات والأرض ] في البر والبحر ، وكل قرن منها وجيل يسمى عالما أيضا .
قال بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : ( الحمد لله رب العالمين ) [ الفاتحة : 2 ] الحمد لله الذي له الخلق كله ، السماوات والأرضون ، ومن فيهن وما بينهن ، مما نعلم ، وما لا نعلم .
وفي رواية سعيد بن جبير ، وعكرمة ، عن ابن عباس : رب الجن والإنس . وكذلك قال سعيد بن جبير ، ومجاهد وابن جريج ، وروي عن علي [ نحوه ] . وقال ابن أبي حاتم : بإسناد لا يعتمد عليه .
واستدل القرطبي لهذا القول بقوله : ( ليكون للعالمين نذيرا ) [ الفرقان : 1 ] وهم الجن والإنس . وقال الفراء وأبو عبيدة : العالم عبارة عما يعقل وهم الإنس والجن والملائكة والشياطين ولا يقال للبهائم : عالم ، وعن زيد بن أسلم وأبي عمرو بن العلاء : كل ما له روح يرتزق . وذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة مروان بن محمد بن مروان بن الحكم - وهو آخر خلفاء بني أمية ويعرف بالجعد ويلقب بالحمار - أنه قال : خلق الله سبعة عشر ألف عالم أهل السماوات وأهل الأرض عالم واحد وسائر ذلك لا يعلمه إلا الله ، عز وجل .
وقال قتادة : رب العالمين ، كل صنف عالم . وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية في قوله تعالى رب العالمين قال : الإنس عالم ، والجن عالم ، وما سوى ذلك ثمانية عشر ألف عالم ، أو أربعة عشر ألف عالم ، هو يشك ، من الملائكة على الأرض ، وللأرض أربع زوايا ، في كل زاوية ثلاثة آلاف عالم ، وخمسمائة عالم ، خلقهم [ الله ] لعبادته . رواه ابن جرير وابن أبي حاتم .
[ وهذا كلام غريب يحتاج مثله إلى دليل صحيح ] .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا هشام بن خالد ، حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثنا الفرات ، يعني ابن الوليد ، عن معتب بن سمي ، عن تبيع ، يعني الحميري ، في قوله : رب العالمين قال : العالمين ألف أمة فستمائة في البحر ، وأربعمائة في البر .
[ وحكي مثله عن سعيد بن المسيب ] .
وقد روي نحو هذا مرفوعا كما قال الحافظ أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى في مسنده :
حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا عبيد بن واقد القيسي ، أبو عباد ، حدثني محمد بن عيسى بن كيسان ، حدثنا محمد بن المنكدر ، عن جابر بن عبد الله ، قال : قل الجراد في سنة من سني عمر التي ولي فيها فسأل عنه ، فلم يخبر بشيء ، فاغتم لذلك ، فأرسل راكبا يضرب إلى اليمن ، وآخر إلى الشام ، وآخر إلى العراق ، يسأل : هل رئي من الجراد شيء أم لا ؟ قال : فأتاه الراكب الذي من قبل اليمن بقبضة من جراد ، فألقاها بين يديه ، فلما رآها كبر ، ثم قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : خلق الله ألف أمة ، ستمائة في البحر وأربعمائة في البر ، فأول شيء يهلك من هذه الأمم الجراد ، فإذا هلك تتابعت مثل النظام إذا قطع سلكه . محمد بن عيسى هذا - وهو الهلالي - ضعيف .
وحكى البغوي عن سعيد بن المسيب أنه قال : لله ألف عالم ؛ ستمائة في البحر وأربعمائة في البر ، وقال وهب بن منبه : لله ثمانية عشر ألف عالم ؛ الدنيا عالم منها . وقال مقاتل : العوالم ثمانون ألفا . وقال كعب الأحبار : لا يعلم عدد العوالم إلا الله عز وجل . نقله كله البغوي ، وحكى القرطبي عن أبي سعيد الخدري أنه قال : إن لله أربعين ألف عالم ؛ الدنيا من شرقها إلى مغربها عالم واحد منها ، وقال الزجاج : العالم كل ما خلق الله في الدنيا والآخرة . قال القرطبي : وهذا هو الصحيح أنه شامل لكل العالمين ، كقوله : قال فرعون وما رب العالمين قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين والعالم مشتق من العلامة ( قلت ) : لأنه علم دال على وجود خالقه وصانعه ووحدانيته كما قال ابن المعتز :
فيا عجبا كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد وفي كل شيء له آية
تدل على أنه واحد
- القرطبى : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
الحمد لله
سورة الفاتحة :
وفيها أربعة أبواب :
[ الباب الأول في فضائلها وأسمائها ] وفيه سبع مسائل
الأولى : روى الترمذي عن أبي بن كعب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما أنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل مثل أم القرآن وهي السبع المثاني وهي مقسومة بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل . أخرج مالك عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب : أن أبا سعيد مولى [ عبد الله بن ] عامر بن كريز أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نادى أبي بن كعب وهو يصلي ; فذكر الحديث . قال ابن عبد البر : أبو سعيد لا يوقف له على اسم وهو معدود في أهل المدينة ، روايته عن أبي هريرة وحديثه هذا مرسل ; وقد روى هذا الحديث عن أبي سعيد بن المعلى رجل من الصحابة لا يوقف على اسمه أيضا رواه عنه حفص بن عاصم ، وعبيد بن حنين .
قلت : كذا قال في ( التمهيد ) : لا يوقف له على اسم . وذكر في كتاب الصحابة الاختلاف في اسمه . والحديث خرجه البخاري عن أبي سعيد بن المعلى قال : كنت أصلي في المسجد فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجبه ، فقلت : يا رسول الله إني كنت أصلي ; فقال : ( ألم يقل الله استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم ) - ثم قال لي - ( إني لأعلمنك سورة هي أعظم السور في القرآن قبل أن تخرج من المسجد ) ثم أخذ بيدي ، فلما أراد أن يخرج قلت له : ألم تقل لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن ؟ قال : الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته . قال ابن عبد البر وغيره : أبو سعيد بن المعلى من جلة الأنصار ، وسادات الأنصار ، تفرد به البخاري ، واسمه رافع ، ويقال : الحارث بن نفيع بن المعلى ، ويقال : أوس بن المعلى ، ويقال : أبو سعيد بن أوس بن المعلى ; توفي سنة أربع وسبعين وهو ابن أربع وستين سنة ، وهو أول من صلى إلى القبلة حين حولت ، وسيأتي . وقد أسند حديث أبي يزيد بن زريع قال : حدثنا روح بن القاسم عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي وهو يصلي ; فذكر الحديث بمعناه .
وذكر ابن الأنباري في كتاب الرد له : حدثني أبو عبيد الله الوراق حدثنا أبو داود حدثنا شيبان عن منصور عن مجاهد قال : إن إبليس - لعنه الله - رن أربع رنات : حين لعن ، وحين أهبط من الجنة ، وحين بعث محمد صلى الله عليه وسلم ، وحين أنزلت فاتحة الكتاب ، وأنزلت بالمدينة .
الثانية : اختلف العلماء في تفضيل بعض السور والآي على بعض ، وتفضيل بعض أسماء الله تعالى الحسنى على بعض ، فقال قوم : لا فضل لبعض على بعض ، لأن الكل كلام الله ، وكذلك أسماؤه لا مفاضلة بينها . ذهب إلى هذا الشيخ أبو الحسن الأشعري ، والقاضي أبو بكر بن الطيب ، وأبو حاتم محمد بن حبان البستي ، وجماعة من الفقهاء . وروي معناه عن مالك . قال يحيى بن يحيى : تفضيل بعض القرآن على بعض خطأ ، وكذلك كره مالك أن تعاد سورة أو تردد دون غيرها . وقال عن مالك في قول الله تعالى : نأت بخير منها أو مثلها قال : محكمة مكان منسوخة . وروى ابن كنانة مثل ذلك كله عن مالك . واحتج هؤلاء بأن قالوا : إن الأفضل يشعر بنقص المفضول ، والذاتية في الكل واحدة ، وهي كلام الله ، وكلام الله تعالى لا نقص فيه . قال البستي : ومعنى هذه اللفظة ( ما في التوراة ولا في الإنجيل مثل أم القرآن ) : أن الله تعالى لا يعطي لقارئ التوراة والإنجيل من الثواب مثل ما يعطي لقارئ أم القرآن ، إذ الله بفضله فضل هذه الأمة على غيرها من الأمم ، وأعطاها من الفضل على قراءة كلامه أكثر مما أعطى غيرها من الفضل على قراءة كلامه ، وهو فضل منه لهذه الأمة . قال ومعنى قوله : ( أعظم سورة ) أراد به في الأجر ، لا أن بعض القرآن أفضل من بعض . وقال قوم بالتفضيل ، وأن ما تضمنه قوله تعالى وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم وآية الكرسي ، وآخر سورة الحشر ، وسورة الإخلاص من الدلالات على وحدانيته وصفاته ليس موجودا مثلا في تبت يدا أبي لهب وما كان مثلها .
والتفضيل إنما هو بالمعاني العجيبة وكثرتها ، لا من حيث الصفة ، وهذا هو الحق . وممن قال بالتفضيل إسحاق بن راهويه وغيره من العلماء والمتكلمين ، وهو اختيار القاضي أبي بكر بن العربي وابن الحصار ، لحديث أبي سعيد بن المعلى وحديث أبي بن كعب أنه قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يا أبي أي آية معك في كتاب الله أعظم ) قال : الله لا إله إلا هو الحي القيوم . قال : فضرب في صدري وقال : ( ليهنك العلم أبا المنذر ) أخرجه البخاري ومسلم .
قال ابن الحصار : عجبي ممن يذكر الاختلاف مع هذه النصوص .
وقال ابن العربي : قوله : " ما أنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل ولا في القرآن مثلها " وسكت عن سائر الكتب ، كالصحف المنزلة والزبور وغيرها ، لأن هذه المذكورة أفضلها ، وإذا كان الشيء أفضل الأفضل ، صار أفضل الكل . كقولك : زيد أفضل العلماء فهو أفضل الناس .
وفي الفاتحة من الصفات ما ليس لغيرها ، حتى قيل : إن جميع القرآن فيها . وهي خمس وعشرون كلمة تضمنت جميع علوم القرآن . ومن شرفها أن الله سبحانه قسمها بينه وبين عبده ، ولا تصح القربة إلا بها ، ولا يلحق عمل بثوابها ، وبهذا المعنى صارت أم القرآن العظيم ، كما صارت قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن ، إذ القرآن توحيد وأحكام ووعظ ، و قل هو الله أحد فيها التوحيد كله ، وبهذا المعنى وقع البيان في قوله عليه السلام لأبي . ( أي آية في القرآن أعظم ) قال : الله لا إله إلا هو الحي القيوم . وإنما كانت أعظم آية لأنها توحيد كلها كما صار قوله : أفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له أفضل الذكر ; لأنها كلمات حوت جميع العلوم في التوحيد ، والفاتحة تضمنت التوحيد والعبادة والوعظ والتذكير ، ولا يستبعد ذلك في قدرة الله تعالى .
الثالثة : روى علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( فاتحة الكتاب ، وآية الكرسي ، و شهد الله أنه لا إله إلا هو ، و قل اللهم مالك الملك ، هذه الآيات معلقات بالعرش ليس بينهن وبين الله حجاب ) . أسنده أبو عمرو الداني في كتاب ( البيان ) له .
الرابعة : في أسمائها ، وهي اثنا عشر اسما :
( الأول ) : الصلاة ، قال الله تعالى : ( قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ) الحديث . وقد تقدم .
( الثاني ) : الحمد ، لأن فيها ذكر الحمد ; كما يقال : سورة الأعراف ، والأنفال ، والتوبة ، ونحوها .
( الثالث ) : فاتحة الكتاب ، من غير خلاف بين العلماء ; وسميت بذلك لأنه تفتتح قراءة القرآن بها لفظا ، وتفتتح بها الكتابة في المصحف خطا ، وتفتتح بها الصلوات .
( الرابع ) : أم الكتاب ، وفي هذا الاسم خلاف ، جوزه الجمهور ، وكرهه أنس والحسن وابن سيرين . قال الحسن : أم الكتاب الحلال والحرام ، قال الله تعالى : آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات . وقال أنس وابن سيرين : أم الكتاب اسم اللوح المحفوظ . قال الله تعالى : وإنه في أم الكتاب .
( الخامس ) : أم القرآن ، واختلف فيه أيضا ، فجوزه الجمهور ، وكرهه أنس وابن سيرين ; والأحاديث الثابتة ترد هذين القولين . روى الترمذي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الحمد لله أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني قال : هذا حديث حسن صحيح . وفي البخاري قال : وسميت أم الكتاب لأنه يبتدأ بكتابتها في المصاحف ، ويبدأ بقراءتها في الصلاة . وقال يحيى بن يعمر : أم القرى : مكة ، وأم خراسان : مرو ، وأم القرآن : سورة الحمد . وقيل : سميت أم القرآن لأنها أوله ومتضمنة لجميع علومه ، وبه سميت مكة أم القرى لأنها أول الأرض ومنها دحيت ، ومنه سميت الأم أما لأنها أصل النسل ، والأرض أما ، في قول أمية بن أبي الصلت :
فالأرض معقلنا وكانت أمنا فيها مقابرنا وفيها نولد
ويقال لراية الحرب : أم ; لتقدمها واتباع الجيش لها . وأصل أم أمهة ، ولذلك تجمع على أمهات ، قال الله تعالى : وأمهاتكم . ويقال أمات بغير هاء . قال :
فرجت الظلام بأماتكا
وقيل : إن أمهات في الناس ، وأمات في البهائم ; حكاه ابن فارس في المجمل .
( السادس ) : المثاني ، سميت بذلك لأنها تثنى في كل ركعة . وقيل : سميت بذلك لأنها استثنيت لهذه الأمة فلم تنزل على أحد قبلها ذخرا لها .
( السابع ) : القرآن العظيم ، سميت بذلك لتضمنها جميع علوم القرآن ، وذلك أنها تشتمل على الثناء على الله عز وجل بأوصاف كماله وجلاله ، وعلى الأمر بالعبادات والإخلاص فيها ، والاعتراف بالعجز عن القيام بشيء منها إلا بإعانته تعالى ، وعلى الابتهال إليه في الهداية إلى الصراط المستقيم ; وكفاية أحوال الناكثين ، وعلى بيانه عاقبة الجاحدين .
( الثامن ) : الشفاء ، روى الدارمي عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فاتحة الكتاب شفاء من كل سم .
( التاسع ) : الرقية ، ثبت ذلك من حديث أبي سعيد الخدري وفيه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للرجل ، الذي رقى سيد الحي : ( ما أدراك أنها رقية ) فقال : يا رسول الله شيء ألقي في روعي ; الحديث . خرجه الأئمة ، وسيأتي بتمامه .
( العاشر ) : الأساس ، شكا رجل إلى الشعبي وجع الخاصرة ; فقال : عليك بأساس القرآن فاتحة الكتاب ، سمعت ابن عباس يقول : لكل شيء أساس ، وأساس الدنيا مكة ، لأنها منها دحيت ; وأساس السماوات عريبا ، وهي السماء السابعة ; وأساس الأرض عجيبا ، وهي الأرض السابعة السفلى ; وأساس الجنان جنة عدن ، وهي سرة الجنان عليها أسست الجنة ; وأساس النار جهنم ، وهي الدركة السابعة السفلى عليها أسست الدركات ، وأساس الخلق آدم ، وأساس الأنبياء نوح ; وأساس بني إسرائيل يعقوب ; وأساس الكتب القرآن ; وأساس القرآن الفاتحة ; وأساس الفاتحة بسم الله الرحمن الرحيم ; فإذا اعتللت أو اشتكيت فعليك بالفاتحة تشفى .
( الحادي عشر ) : الوافية ، قاله سفيان بن عيينة ، لأنها لا تتنصف ولا تحتمل الاختزال ، ولو قرأ من سائر السور نصفها في ركعة ، ونصفها الآخر في ركعة لأجزأ ; ولو نصفت الفاتحة في ركعتين لم يجز .
( الثاني عشر ) : الكافية ، قال يحيى بن أبي كثير : لأنها تكفي عن سواها ولا يكفي سواها عنها . يدل عليه ما روى محمد بن خلاد الإسكندراني قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : أم القرآن عوض من غيرها وليس غيرها منها عوضا .
الخامسة : قال المهلب : إن موضع الرقية منها إنما هو إياك نعبد وإياك نستعين . وقيل : السورة كلها رقية ، لقوله عليه السلام للرجل لما أخبره : ( وما أدراك أنها رقية ) ولم يقل : أن فيها رقية ; فدل هذا على أن السورة بأجمعها رقية ، لأنها فاتحة الكتاب ومبدؤه ، ومتضمنة لجميع علومه ، كما تقدم والله أعلم .
السادسة : ليس في تسميتها بالمثاني وأم الكتاب ما يمنع من تسمية غيرها بذلك ، قال الله عز وجل : كتابا متشابها مثاني فأطلق على كتابه : مثاني ; لأن الأخبار تثنى فيه . وقد سميت السبع الطول أيضا مثاني ; لأن الفرائض والقصص تثنى فيها . قال ابن عباس : أوتي رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعا من المثاني ; قال : السبع الطول . ذكره النسائي ، وهي من " البقرة " إلى " الأعراف " ست ، واختلفوا في السابعة ، فقيل : يونس ، وقيل : الأنفال والتوبة ; وهو قول مجاهد وسعيد بن جبير . وقال أعشى همدان :
فلجوا المسجد وادعوا ربكم وادرسوا هذي المثاني والطول
وسيأتي لهذا مزيد بيان في سورة " الحجر " إن شاء الله تعالى .
السابعة : المثاني جمع مثنى ، وهي التي جاءت بعد الأولى ، والطول جمع أطول . وقد سميت الأنفال من المثاني لأنها تتلو الطول في القدر . وقيل : هي التي تزيد آياتها على المفصل وتنقص عن المئين . والمئون : هي السور التي تزيد كل واحدة منها على مائة آية .
وفيه عشرون مسألة
الأولى : أجمعت الأمة على أن فاتحة الكتاب سبع آيات ; إلا ما روي عن حسين الجعفي : أنها ست ; وهذا شاذ . وإلا ما روي عن عمرو بن عبيد أنه جعل إياك نعبد آية ، وهي على عدة ثماني آيات ; وهذا شاذ . وقوله تعالى : ولقد آتيناك سبعا من المثاني ، وقوله : ( قسمت الصلاة ) الحديث ، يرد هذين القولين .
وأجمعت الأمة أيضا على أنها من القرآن . فإن قيل : لو كانت قرآنا لأثبتها عبد الله بن مسعود في مصحفه ، فلما لم يثبتها دل على أنها ليست من القرآن ، كالمعوذتين عنده .
فالجواب ما ذكره أبو بكر الأنباري قال : حدثنا الحسن بن الحباب حدثنا سليمان بن الأشعث حدثنا ابن أبي قدامة حدثنا جرير عن الأعمش قال : أظنه عن إبراهيم قال : قيل لعبد الله بن مسعود : لم لم تكتب فاتحة الكتاب في مصحفك ؟ قال لو كتبتها لكتبتها مع كل سورة . قال أبو بكر : يعني أن كل ركعة سبيلها أن تفتتح بأم القرآن قبل السورة المتلوة بعدها ، فقال : اختصرت بإسقاطها ، ووثقت بحفظ المسلمين لها ، ولم أثبتها في موضع فيلزمني أن أكتبها مع كل سورة ، إذ كانت تتقدمها في الصلاة .
الثانية : اختلفوا أهي مكية أم مدنية ؟ فقال ابن عباس وقتادة وأبو العالية الرياحي - واسمه رفيع - وغيرهم : هي مكية . وقال أبو هريرة ومجاهد وعطاء بن يسار والزهري وغيرهم : هي مدنية . ويقال : نزل نصفها بمكة ، ونصفها بالمدينة . حكاه أبو الليث نصر بن محمد بن إبراهيم السمرقندي في تفسيره . والأول أصح لقوله تعالى : ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم والحجر مكية بإجماع . ولا خلاف أن فرض الصلاة كان بمكة . وما حفظ أنه كان في الإسلام قط صلاة بغير الحمد لله رب العالمين ; يدل على هذا قوله عليه السلام : ( لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب ) . وهذا خبر عن الحكم ، لا عن الابتداء ، والله أعلم . وقد ذكر القاضي ابن الطيب اختلاف الناس في أول ما نزل من القرآن ; فقيل : المدثر ، وقيل : اقرأ ، وقيل : الفاتحة . وذكر البيهقي في دلائل النبوة عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لخديجة : إني إذا خلوت وحدي سمعت نداء وقد والله خشيت أن يكون هذا أمرا قالت : معاذ الله ! ما كان الله ليفعل بك ، فوالله إنك لتؤدي الأمانة ، وتصل الرحم ، وتصدق الحديث . فلما دخل أبو بكر - وليس رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم - ذكرت خديجة حديثه له ، قالت : يا عتيق ، اذهب مع محمد إلى ورقة بن نوفل . فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ أبو بكر بيده ، فقال : انطلق بنا إلى ورقة ، فقال : ( ومن أخبرك ) . قال : خديجة ، فانطلقا إليه فقصا عليه ; فقال : إذا خلوت وحدي سمعت نداء خلفي يا محمد يا محمد فأنطلق هاربا في الأرض فقال : لا تفعل ، إذا أتاك فاثبت حتى تسمع ما يقول ثم ائتني فأخبرني . فلما خلا ناداه : يا محمد ، قل بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين - حتى بلغ ولا الضالين ، قل : لا إله إلا الله . فأتى ورقة فذكر ذلك له ; فقال له ورقة : أبشر ثم أبشر ، فأنا أشهد أنك الذي بشر به عيسى ابن مريم ، وأنك على مثل ناموس موسى ، وأنك نبي مرسل ، وأنك سوف تؤمر بالجهاد بعد يومك هذا ، وإن يدركني ذلك لأجاهدن معك . فلما توفي ورقة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لقد رأيت القس في الجنة عليه ثياب الحرير لأنه آمن بي وصدقني يعني ورقة . قال البيهقي رضي الله عنه : هذا منقطع . يعني هذا الحديث ، فإن كان محفوظا فيحتمل أن يكون خبرا عن نزولها بعدما نزل عليه اقرأ باسم ربك و ياأيها المدثر .
الثالثة : قال ابن عطية : ظن بعض العلماء أن جبريل عليه السلام لم ينزل بسورة الحمد ; لما رواه مسلم عن ابن عباس قال : بينما جبريل قاعد عند النبي صلى الله عليه وسلم ، سمع نقيضا من فوقه ، فرفع رأسه فقال : هذا باب من السماء فتح اليوم لم يفتح قط إلا اليوم ، فنزل منه ملك ، فقال : هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم ; فسلم وقال : أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك : فاتحة الكتاب ، وخواتيم سورة البقرة ; لن تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته . قال ابن عطية : وليس كما ظن ، فإن هذا الحديث يدل على أن جبريل عليه السلام تقدم الملك إلى النبي صلى الله عليه وسلم معلما به وبما ينزل معه ; وعلى هذا يكون جبريل شارك في نزولها ; والله أعلم .
قلت : الظاهر من الحديث يدل على أن جبريل عليه السلام لم يعلم النبي صلى الله عليه وسلم بشيء من ذلك . وقد بينا أن نزولها كان بمكة ، نزل بها جبريل عليه السلام ، لقوله تعالى : نزل به الروح الأمين وهذا يقتضي جميع القرآن ، فيكون جبريل عليه السلام نزل بتلاوتها بمكة ، ونزل الملك بثوابها بالمدينة . والله أعلم . وقد قيل : إنها مكية مدنية ، نزل بها جبريل مرتين ; حكاه الثعلبي . وما ذكرناه أولى . فإنه جمع بين القرآن والسنة ، ولله الحمد والمنة .
الرابعة : قد تقدم أن البسملة ليست بآية منها على القول الصحيح ، وإذا ثبت ذلك فحكم المصلي إذا كبر أن يصله بالفاتحة ولا يسكت ، ولا يذكر توجيها ولا تسبيحا ، لحديث عائشة وأنس المتقدمين وغيرهما ، وقد جاءت أحاديث بالتوجيه والتسبيح والسكوت ، قال بها جماعة من العلماء ; فروي عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما أنهما كانا يقولان إذا افتتحا الصلاة : سبحانك اللهم وبحمدك ، تبارك اسمك ، وتعالى جدك ، ولا إله غيرك . وبه قال سفيان وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي . وكان الشافعي يقول بالذي روي عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا افتتح الصلاة كبر ثم قال : وجهت وجهي الحديث ، ذكره مسلم ، وسيأتي بتمامه في آخر سورة الأنعام ، وهناك يأتي القول في هذه المسألة مستوفى إن شاء الله .
قال ابن المنذر : ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا كبر في الصلاة سكت هنيهة قبل أن يقرأ يقول : اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد واستعمل ذلك أبو هريرة . وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن : للإمام سكتتان فاغتنموا فيهما القراءة . وكان الأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز وأحمد بن حنبل يميلون إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب .
الخامسة : واختلف العلماء في وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة ; فقال مالك وأصحابه : هي متعينة للإمام والمنفرد في كل ركعة . قال ابن خويز منداد البصري المالكي : لم يختلف قول مالك أنه من نسيها في صلاة ركعة من صلاة ركعتين أن صلاته تبطل ولا تجزيه . واختلف قوله فيمن تركها ناسيا في ركعة من صلاة رباعية أو ثلاثية ; فقال مرة : يعيد الصلاة ، وقال مرة أخرى : يسجد سجدتي السهو ; وهي رواية ابن عبد الحكم وغيره عن مالك . قال ابن خويز منداد وقد قيل : إنه يعيد تلك الركعة ويسجد للسهو بعد السلام . قال ابن عبد البر : الصحيح من القول إلغاء تلك الركعة ويأتي بركعة بدلا منها ، كمن أسقط سجدة سهوا . وهو اختيار ابن القاسم . وقال الحسن البصري وأكثر أهل البصرة والمغيرة بن عبد الرحمن المخزومي المدني : إذا قرأ بأم القرآن مرة واحدة في الصلاة أجزأه ولم تكن عليه إعادة ; لأنها صلاة قد قرأ فيها بأم القرآن ; وهي تامة لقوله عليه السلام : لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن وهذا قد قرأ بها .
قلت : ويحتمل لا صلاة لمن لم يقرأ بها في كل ركعة ، وهو الصحيح على ما يأتي . ويحتمل لا صلاة لمن لم يقرأ بها في أكثر عدد الركعات ، وهذا هو سبب الخلاف والله أعلم .
وقال أبو حنيفة والثوري والأوزاعي : إن تركها عامدا في صلاته كلها وقرأ غيرها أجزأه ; على اختلاف عن الأوزاعي في ذلك . وقال أبو يوسف ومحمد بن الحسن : أقله ثلاث آيات أو آية طويلة كآية الدين . وعن محمد بن الحسن أيضا قال : أسوغ الاجتهاد في مقدار آية ومقدار كلمة مفهومة ; نحو : الحمد لله ولا أسوغه في حرف لا يكون كلاما . وقال الطبري : يقرأ المصلي بأم القرآن في كل ركعة ، فإن لم يقرأ بها لم يجزه إلا مثلها من القرآن عدد آيها وحروفها . قال ابن عبد البر : وهذا لا معنى له ; لأن التعيين لها والنص عليها قد خصها بهذا الحكم دون غيرها ; ومحال أن يجيء بالبدل منها من وجبت عليه فتركها وهو قادر عليها ، وإنما عليه أن يجيء بها ويعود إليها ، كسائر المفروضات المتعينات في العبادات .
السادسة : وأما المأموم فإن أدرك الإمام راكعا فالإمام يحمل عنه القراءة ; لإجماعهم على أنه إذا أدركه راكعا أنه يكبر ويركع ولا يقرأ شيئا وإن أدركه قائما فإنه يقرأ ، وهي المسألة :
السابعة : ولا ينبغي لأحد أن يدع القراءة خلف إمامه في صلاة السر ; فإن فعل فقد أساء ; ولا شيء عليه عند مالك وأصحابه . وأما إذا جهر الإمام وهي المسألة :
الثامنة : فلا قراءة بفاتحة الكتاب ولا غيرها في المشهور من مذهب مالك ; لقول الله تعالى : وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا ، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما لي أنازع القرآن ، وقوله في الإمام : إذا قرأ فأنصتوا ، وقوله : من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة .
وقال الشافعي فيما حكى عنه البويطي وأحمد بن حنبل : لا تجزئ أحدا صلاة حتى يقرأ بفاتحة الكتاب في كل ركعة ، إماما كان أو مأموما ، جهر إمامه أو أسر . وكان الشافعي بالعراق يقول في المأموم : يقرأ إذا أسر ولا يقرأ إذا جهر ; كمشهور مذهب مالك . وقال بمصر : فيما يجهر فيه الإمام بالقراءة قولان : أحدهما أن يقرأ والآخر يجزئه ألا يقرأ ويكتفي بقراءة الإمام . حكاه ابن المنذر . وقال ابن وهب وأشهب وابن عبد الحكم وابن حبيب والكوفيون : لا يقرأ المأموم شيئا ، جهر إمامه أو أسر ; لقوله عليه السلام : فقراءة الإمام له قراءة وهذا عام ، ولقول جابر : من صلى ركعة لم يقرأ فيها بأم القرآن فلم يصل إلا وراء الإمام .
التاسعة : الصحيح من هذه الأقوال قول الشافعي وأحمد ومالك في القول الآخر ، وأن الفاتحة متعينة في كل ركعة لكل أحد على العموم ; لقوله صلى الله عليه وسلم : لا صلاة لمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب ، وقوله : من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج ثلاثا . وقال أبو هريرة : أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أنادي أنه : ( لا صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب فما زاد ) أخرجه أبو داود . كما لا ينوب سجود ركعة ولا ركوعها عن ركعة أخرى ، فكذلك لا تنوب قراءة ركعة عن غيرها ; وبه قال عبد الله بن عون وأيوب السختياني وأبو ثور وغيره من أصحاب الشافعي وداود بن علي ، وروي مثله عن الأوزاعي ; وبه قال مكحول .
وروي عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن عباس وأبي هريرة وأبي بن كعب وأبي أيوب الأنصاري وعبد الله بن عمرو بن العاص وعبادة بن الصامت وأبي سعيد الخدري وعثمان بن أبي العاص وخوات بن جبير أنهم قالوا : لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب . وهو قول ابن عمر والمشهور من مذهب الأوزاعي ; فهؤلاء الصحابة بهم القدوة ، وفيهم الأسوة ، كلهم يوجبون الفاتحة في كل ركعة .
وقد أخرج الإمام أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه القزويني في سننه ما يرفع الخلاف ويزيل كل احتمال فقال : حدثنا أبو كريب حدثنا محمد بن فضيل ، ح ، وحدثنا سويد بن سعيد حدثنا علي بن مسهر جميعا عن أبي سفيان السعدي عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا صلاة لمن لم يقرأ في كل ركعة بالحمد لله وسورة في فريضة أو غيرها . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أنه عليه السلام قال للذي علمه الصلاة : وافعل ذلك في صلاتك كلها وسيأتي . ومن الحجة في ذلك أيضا ما رواه أبو داود عن نافع بن محمود بن الربيع الأنصاري قال : أبطأ عبادة بن الصامت عن صلاة الصبح ; فأقام أبو نعيم المؤذن الصلاة فصلى أبو نعيم بالناس ، وأقبل عبادة بن الصامت وأنا معه حتى صففنا خلف أبي نعيم ، وأبو نعيم يجهر بالقراءة ; فجعل عبادة يقرأ بأم القرآن ; فلما انصرف قلت لعبادة : سمعتك تقرأ بأم القرآن وأبو نعيم يجهر ؟ قال : أجل ! صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض الصلوات التي يجهر فيها بالقراءة فالتبست عليه ; فلما انصرف أقبل علينا بوجهه فقال : هل تقرءون إذا جهرت بالقراءة ؟ فقال بعضنا : إنا نصنع ذلك ; قال : فلا . وأنا أقول ما لي ينازعني القرآن فلا تقرءوا بشيء من القرآن إذا جهرت إلا بأم القرآن . وهذا نص صريح في المأموم . وأخرجه أبو عيسى الترمذي من حديث محمد بن إسحاق بمعناه ; وقال : حديث حسن . والعمل على هذا الحديث في القراءة خلف الإمام عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين ; وهو قول مالك بن أنس وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق ، يرون القراءة خلف الإمام . وأخرجه أيضا الدارقطني وقال : هذا إسناد حسن ، ورجاله كلهم ثقات ; وذكر أن محمود بن الربيع كان يسكن إيلياء ، وأن أبا نعيم أول من أذن في بيت المقدس . وقال أبو محمد عبد الحق : ونافع بن محمود لم يذكره البخاري في تاريخه ولا ابن أبي حاتم ; ولا أخرج له البخاري ومسلم شيئا . وقال فيه أبو عمر : مجهول . وذكر الدارقطني عن يزيد بن شريك قال : سألت عمر عن القراءة خلف الإمام ، فأمرني أن أقرأ ، قلت : وإن كنت أنت ؟ قال : وإن كنت أنا ; قلت : وإن جهرت ؟ قال : وإن جهرت . قال الدارقطني : هذا إسناد صحيح . وروي عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الإمام ضامن فما صنع فاصنعوا . قال أبو حاتم : هذا يصح لمن قال بالقراءة خلف الإمام ; وبهذا أفتى أبو هريرة الفارسي أن يقرأ بها في نفسه حين قال له : إني أحيانا أكون وراء الإمام ، ثم استدل بقوله تعالى : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اقرءوا يقول العبد الحمد لله رب العالمين الحديث .
العاشرة : أما ما استدل به الأولون بقوله عليه السلام : وإذا قرأ فأنصتوا أخرجه مسلم من حديث أبي موسى الأشعري ; وقال : وفي حديث جرير عن سليمان عن قتادة من الزيادة وإذا قرأ فأنصتوا قال الدارقطني : هذه اللفظة لم يتابع سليمان التيمي فيها عن قتادة ; وخالفه الحفاظ من أصحاب قتادة فلم يذكروها ; منهم شعبة وهشام وسعيد بن أبي عروبة وهمام وأبو عوانة ومعمر وعدي بن أبي عمارة . قال الدارقطني : فإجماعهم يدل على وهمه . وقد روي عن عبد الله بن عامر عن قتادة متابعة التيمي ; ولكن ليس هو بالقوي ، تركه القطان . وأخرج أيضا هذه الزيادة أبو داود من حديث أبي هريرة وقال : هذه الزيادة إذا قرأ فأنصتوا ليست بمحفوظة . وذكر أبو محمد عبد الحق : أن مسلما صحح حديث أبي هريرة وقال : هو عندي صحيح .
قلت : ومما يدل على صحتها عنده إدخالها في كتابه من حديث أبي موسى وإن كانت مما لم يجمعوا عليها . وقد صححها الإمام أحمد بن حنبل وابن المنذر . وأما قوله تعالى : وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا فإنه نزل بمكة ، وتحريم الكلام في الصلاة نزل بالمدينة - كما قال زيد بن أرقم فلا حجة فيها ; فإن المقصود كان المشركين ، على ما قال سعيد بن المسيب . وقد روى الدارقطني عن أبي هريرة أنها نزلت في رفع الصوت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال : عبد الله بن عامر ضعيف . وأما قوله عليه السلام : ( ما لي أنازع القرآن ) فأخرجه مالك عن ابن شهاب عن ابن أكيمة الليثي ، واسمه فيما قال مالك : عمرو ، وغيره يقول عامر ، وقيل يزيد ، وقيل عمارة ، وقيل عباد ، يكنى أبا الوليد توفي سنة إحدى ومائة وهو ابن تسع وسبعين سنة ، لم يرو عنه الزهري إلا هذا الحديث الواحد ، وهو ثقة ، وروى عنه محمد بن عمرو وغيره . والمعنى في حديثه : لا تجهروا إذا جهرت فإن ذلك تنازع وتجاذب وتخالج ، اقرءوا في أنفسكم . يبينه حديث عبادة وفتيا الفاروق وأبي هريرة الراوي للحديثين . فلو فهم المنع جملة من قوله : ( ما لي أنازع القرآن ) لما أفتى بخلافه ، وقول الزهري في حديث ابن أكيمة : فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جهر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقراءة ، حين سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يريد بالحمد على ما بينا ; وبالله توفيقنا .
وأما قوله صلى الله عليه وسلم : من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة فحديث ضعيف أسنده الحسن بن عمارة وهو متروك ، وأبو حنيفة وهو ضعيف ; كلاهما عن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شداد عن جابر . أخرجه الدارقطني وقال : رواه سفيان الثوري وشعبة وإسرائيل بن يونس وشريك وأبو خالد الدالاني وأبو الأحوص وسفيان بن عيينة وجرير بن عبد الحميد وغيرهم ، عن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شداد مرسلا عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو الصواب . وأما قول جابر : من صلى ركعة لم يقرأ فيها بأم القرآن فلم يصل إلا وراء الإمام ; فرواه مالك عن وهب بن كيسان عن جابر قوله . قال ابن عبد البر : ورواه يحيى بن سلام صاحب التفسير عن مالك عن أبي نعيم وهب بن كيسان عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم وصوابه موقوف على جابر كما في الموطأ . وفيه من الفقه إبطال الركعة التي لا يقرأ فيها بأم القرآن ; وهو يشهد لصحة ما ذهب إليه ابن القاسم ورواه عن مالك في إلغاء الركعة والبناء على غيرها ولا يعتد المصلي بركعة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب . وفيه أيضا أنالإمام قراءته لمن خلفه قراءة ; وهذا مذهب جابر وقد خالفه فيه غيره .
الحادية عشرة : قال ابن العربي : لما قال صلى الله عليه وسلم : لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب واختلف الناس في هذا الأصل هل يحمل هذا النفي على التمام والكمال ، أو على الإجزاء ؟ اختلفت الفتوى بحسب اختلاف حال الناظر ، ولما كان الأشهر في هذا الأصل والأقوى أن النفي على العموم ، كان الأقوى من رواية مالك أن من لم يقرأ الفاتحة في صلاته بطلت . ثم نظرنا في تكرارها في كل ركعة ; فمن تأول قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( ثم افعل ذلك في صلاتك كلها ) لزمه أن يعيد القراءة كما يعيد الركوع والسجود . والله أعلم .
الثانية عشرة : ما ذكرناه في هذا الباب من الأحاديث والمعاني في تعيين الفاتحة يرد على الكوفيين قولهم في أن الفاتحة لا تتعين ، وأنها وغيرها من آي القرآن سواء . وقد عينها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله كما ذكرناه ; وهو المبين عن الله تعالى مراده في قوله : وأقيموا الصلاة . وقد روى أبو داود عن أبي سعيد الخدري قال : أمرنا أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسر . فدل هذا الحديث على أن قوله عليه السلام للأعرابي : اقرأ ما تيسر معك من القرآن ما زاد على الفاتحة ، وهو تفسير قوله تعالى : فاقرءوا ما تيسر منه وقد روى مسلم عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن - زاد في رواية - فصاعدا . وقوله عليه السلام : ( هي خداج - ثلاثا - غير تمام ) أي غير مجزئة بالأدلة المذكورة . والخداج : النقص والفساد . قال الأخفش : خدجت الناقة ; إذا ألقت ولدها لغير تمام ، وأخدجت إذا قذفت به قبل وقت الولادة وإن كان تام الخلق .
والنظر يوجب في النقصان ألا تجوز معه الصلاة ، لأنها صلاة لم تتم ; ومن خرج من صلاته وهي لم تتم فعليه إعادتها كما أمر ، على حسب حكمها . ومن ادعى أنها تجوز مع إقراره بنقصها فعليه الدليل ، ولا سبيل إليه من وجه يلزم ، والله أعلم .
الثالثة عشرة : روي عن مالك أن القراءة لا تجب في شيء في الصلاة ; وكذلك كان الشافعي يقول بالعراق فيمن نسيها ، ثم رجع عن هذا بمصر فقال : لا تجزئ صلاة من يحسن فاتحة الكتاب إلا بها ، ولا يجزئه أن ينقص حرفا منها ; فإن لم يقرأها أو نقص منها حرفا أعاد صلاته وإن قرأ بغيرها . وهذا هو الصحيح في المسألة . وأما ما روي عن عمر رحمه الله أنه صلى المغرب فلم يقرأ فيها ، فذكر ذلك له فقال : كيف كان الركوع والسجود ؟ قالوا : حسن ، قال : لا بأس إذا ، فحديث منكر اللفظ منقطع الإسناد ، لأنه يرويه إبراهيم بن الحارث التيمي عن عمر ، ومرة يرويه إبراهيم عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عمر ، وكلاهما منقطع لا حجة فيه ; وقد ذكره مالك في الموطأ ، وهو عند بعض الرواة وليس عند يحيى وطائفة معه ، لأنه رماه مالك من كتابه بأخرة ، وقال ليس عليه العمل لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : كل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج وقد روي عن عمر أنه أعاد تلك الصلاة ; وهو الصحيح عنه . روى يحيى بن يحيى النيسابوري قال : حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن إبراهيم النخعي عن همام بن الحارث أن عمر نسي القراءة في المغرب فأعاد بهم الصلاة . قال ابن عبد البر : وهذا حديث متصل شهده همام من عمر ; روي ذلك من وجوه . وروى أشهب عن مالك قال : سئل مالك عن الذي نسي القراءة ، أيعجبك ما قال عمر ؟ فقال : أنا أنكر أن يكون عمر فعله - وأنكر الحديث - وقال : يرى الناس عمر يصنع هذا في المغرب ولا يسبحون به ! أرى أن يعيد الصلاة من فعل هذا .
الرابعة عشرة : أجمع العلماء على أن لا صلاة إلا بقراءة ، على ما تقدم من أصولهم في ذلك . وأجمعوا على أن لا توقيت في ذلك بعد فاتحة الكتاب ، إلا أنهم يستحبون ألا يقرأ مع فاتحة الكتاب إلا سورة واحدة لأنه الأكثر مما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم . قال مالك : وسنة القراءة أن يقرأ في الركعتين الأوليين بأم القرآن وسورة ، وفي الأخريين بفاتحة الكتاب . وقال الأوزاعي : يقرأ بأم القرآن فإن لم يقرأ بأم القرآن وقرأ بغيرها أجزأه ، وقال : وإن نسي أن يقرأ في ثلاث ركعات أعاد . وقال الثوري : يقرأ في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورة ، ويسبح في الأخريين إن شاء ، وإن شاء قرأ ، وإن لم يقرأ ولم يسبح جازت صلاته ، وهو قول أبي حنيفة وسائر الكوفيين .
قال ابن المنذر : وقد روينا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : اقرأ في الأوليين وسبح في الأخريين ، وبه قال النخعي . قال سفيان : فإن لم يقرأ في ثلاث ركعات أعاد الصلاة لأنه لا تجزئه قراءة ركعة . قال : وكذلك إن نسي أن يقرأ ركعة في صلاة الفجر . وقال أبو ثور : لا تجزئ صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب في كل ركعة ، كقول الشافعي المصري ، وعليه جماعة أصحاب الشافعي . وكذلك قال ابن خويز منداد المالكي ; قال : قراءة الفاتحة واجبة عندنا في كل ركعة ، وهذا هو الصحيح في المسألة . روى مسلم عن أبي قتادة قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنا فيقرأ في الظهر والعصر في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورتين ، ويسمعنا الآية أحيانا ، وكان يطول في الركعة الأولى من الظهر ويقصر الثانية ، وكذلك في الصبح . وفي رواية : ويقرأ في الركعتين الأخريين بفاتحة الكتاب ; وهذا نص صريح وحديث صحيح لما ذهب إليه مالك . ونص في تعين الفاتحة في كل ركعة ; خلافا لمن أبى ذلك ، والحجة في السنة لا فيما خالفها .
الخامسة عشرة : ذهب الجمهور إلى أن ما زاد على الفاتحة من القراءة ليس بواجب ; لما رواه مسلم عن أبي هريرة قال : في كل صلاة قراءة ، فما أسمعنا النبي صلى الله عليه وسلم أسمعناكم ، وما أخفى منا أخفينا منكم ; فمن قرأ بأم القرآن فقد أجزأت عنه ، ومن زاد فهو أفضل . وفي البخاري : وإن زدت فهو خير . وقد أبى كثير من أهل العلم ترك السورة لضرورة أو لغير ضرورة ; منهم عمران بن حصين وأبو سعيد الخدري وخوات بن جبير ومجاهد وأبو وائل وابن عمر وابن عباس وغيرهم ; قالوا : لا صلاة لمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب وشيء معها من القرآن ; فمنهم من حد آيتين ، ومنهم من حد آية ، ومنهم من لم يحد ، وقال : شيء من القرآن معها ; وكل هذا موجب لتعلم ما تيسر من القرآن على كل حال مع فاتحة الكتاب ; لحديث عبادة وأبي سعيد الخدري وغيرهما . وفي المدونة : وكيع عن الأعمش عن خيثمة قال : حدثني من سمع عمر بن الخطاب يقول : لا تجزئ صلاة من لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب وشيء معها .
واختلف المذهب في قراءة السورة على ثلاثة أقوال : سنة ، فضيلة ، واجبة .
السادسة عشرة : من تعذر ذلك عليه بعد بلوغ مجهوده فلم يقدر على تعلم الفاتحة أو شيء من القرآن ولا علق منه بشيء ، لزمه أن يذكر الله في موضع القراءة بما أمكنه من تكبير أو تهليل أو تحميد أو تسبيح أو تمجيد أو لا حول ولا قوة إلا بالله ، إذا صلى وحده أو مع إمام فيما أسر فيه الإمام ; فقد روى أبو داود وغيره عن عبد الله بن أبي أوفى قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إني لا أستطيع أن آخذ من القرآن شيئا ، فعلمني ما يجزئني منه ; قال : قل سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله ; قال : يا رسول الله ، هذا لله ، فما لي ؟ قال : قل اللهم ارحمني وعافني واهدني وارزقني .
السابعة عشرة : فإن عجز عن إصابة شيء من هذا اللفظ فلا يدع الصلاة مع الإمام جهده ; فالإمام يحمل ذلك عنه إن شاء الله ; وعليه أبدا أن يجهد نفسه في تعلم فاتحة الكتاب فما زاد ، إلى أن يحول الموت دون ذلك وهو بحال الاجتهاد فيعذره الله .
الثامنة عشرة : من لم يواته لسانه إلى التكلم بالعربية من الأعجميين وغيرهم ترجم له الدعاء العربي بلسانه الذي يفقه لإقامة صلاته ; فإن ذلك يجزئه إن شاء الله تعالى .
التاسعة عشرة : لا تجزئ صلاة من قرأ بالفارسية وهو يحسن العربية في قول الجمهور . وقال أبو حنيفة : تجزئه القراءة بالفارسية وإن أحسن العربية ; لأن المقصود إصابة المعنى . قال ابن المنذر : لا يجزئه ذلك ; لأنه خلاف ما أمر الله به ، وخلاف ما علم النبي صلى الله عليه وسلم ، وخلاف جماعات المسلمين . ولا نعلم أحدا وافقه على ما قال .
الموفية عشرين : من افتتح الصلاة كما أمر وهو غير عالم بالقراءة ، فطرأ عليه العلم بها في أثناء الصلاة ويتصور ذلك بأن يكون سمع من قرأها فعلقت بحفظه من مجرد السماع فلا يستأنف الصلاة ; لأنه أدى ما مضى على حسب ما أمر به ; فلا وجه لإبطاله قاله في كتاب ابن سحنون .
فيه ثمان مسائل :
الأولى : ويسن لقارئ القرآن أن يقول بعد الفراغ من الفاتحة بعد سكتة على نون " ولا الضالين " : آمين ، ليتميز ما هو قرآن مما ليس بقرآن .
الثانية : ثبت في الأمهات من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إذا أمن الإمام فأمنوا فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه . قال علماؤنا رحمة الله عليهم : فترتبت المغفرة للذنب على مقدمات أربع تضمنها هذا الحديث . الأولى : تأمين الإمام ، الثانية : تأمين من خلفه ، الثالثة : تأمين الملائكة ، الرابعة : موافقة التأمين ، قيل في الإجابة ، وقيل في الزمن ، وقيل في الصفة من إخلاص الدعاء ، لقوله عليه السلام : ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه .
الثالثة : روى أبو داود عن أبي مصبح المقرائي قال : كنا نجلس إلى أبي زهير النميري وكان من الصحابة ، فيحدث أحسن الحديث ، فإذا دعا الرجل منا بدعاء قال : اختمه بآمين . فإن آمين مثل الطابع على الصحيفة . قال أبو زهير ألا أخبركم عن ذلك ، خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ، فأتينا على رجل قد ألح في المسألة ، فوقف النبي صلى الله عليه وسلم يسمع منه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أوجب إن ختم فقال له رجل من القوم : بأي شيء يختم ؟ قال : بآمين فإنه إن ختم بآمين فقد أوجب فانصرف الرجل الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم ، فأتى الرجل فقال له : اختم يا فلان وأبشر . قال ابن عبد البر : أبو زهير النميري اسمه يحيى بن نفير روى عن النبي صلى الله عليه وسلم لا تقتلوا الجراد فإنه جند الله الأعظم . وقال وهب بن منبه : آمين أربعة أحرف يخلق الله من كل حرف ملكا يقول : اللهم اغفر لكل من قال آمين . وفي الخبر ( لقنني جبريل آمين عند فراغي من فاتحة الكتاب وقال إنه كالخاتم على الكتاب ) وفي حديث آخر : آمين خاتم رب العالمين . قال الهروي قال أبو بكر : معناه أنه طابع الله على عباده ; لأنه يدفع [ به عنهم ] الآفات والبلايا ; فكان كخاتم الكتاب الذي يصونه ، ويمنع من إفساده وإظهار ما فيه . وفي حديث آخر آمين درجة في الجنة . قال أبو بكر : معناه أنه حرف يكتسب به قائله درجة في الجنة .
الرابعة : معنى آمين عند أكثر أهل العلم : اللهم استجب لنا ; وضع موضع الدعاء . وقال قوم : هو اسم من أسماء الله ; روي عن جعفر بن محمد ومجاهد وهلال بن يساف ورواه ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يصح ; قاله ابن العربي . وقيل معنى آمين : كذلك فليكن ; قاله الجوهري . وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما معنى آمين ؟ قال : ( رب افعل ) . وقال مقاتل : هو قوة للدعاء ، واستنزال للبركة . وقال الترمذي : معناه لا تخيب رجاءنا .
الخامسة : وفي آمين لغتان : المد على وزن فاعيل كياسين . والقصر على وزن يمين . قال الشاعر في المد :
يا رب لا تسلبني حبها أبدا ويرحم الله عبدا قال آمينا
وقال آخر :
آمين آمين لا أرضى بواحدة حتى أبلغها ألفين آمينا
وقال آخر في القصر :
تباعد مني فطحل إذ سألته أمين فزاد الله ما بيننا بعدا
وتشديد الميم خطأ ; قال الجوهري . وقد روي عن الحسن وجعفر الصادق التشديد ; وهو قول الحسين بن الفضل ; من " أم " إذا قصد ، أي نحن قاصدون نحوك ; ومنه قوله : ولا آمين البيت الحرام . حكاه أبو نصر عبد الرحيم بن عبد الكريم القشيري . قال الجوهري : وهو مبني على الفتح مثل أين وكيف ; لاجتماع الساكنين . وتقول منه : أمن فلان تأمينا .
السادسة : اختلف العلماء هل يقولها الإمام وهل يجهر بها ; فذهب الشافعي ومالك في رواية المدنيين إلى ذلك . وقال الكوفيون وبعض المدنيين : لا يجهر بها . وهو قول الطبري ، وبه قال ابن حبيب من علمائنا . وقال ابن بكير : هو مخير . وروى ابن القاسم عن مالك أن الإمام لا يقول آمين وإنما يقول ذلك من خلفه ; وهو قول ابن القاسم والمصريين من أصحاب مالك . وحجتهم حديث أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبنا فبين لنا سنتنا وعلمنا صلاتنا فقال : إذا صليتم فأقيموا صفوفكم ثم ليؤمكم أحدكم فإذا كبر فكبروا وإذا قال " غير المغضوب عليهم ولا الضالين " فقولوا آمين يجبكم الله وذكر الحديث ، أخرجه مسلم . ومثله حديث سمي عن أبي هريرة ; وأخرجه مالك . والصحيح الأول لحديث وائل بن حجر قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ ولا الضالين قال : " آمين " يرفع بها صوته ; أخرجه أبو داود والدارقطني ، وزاد " قال أبو بكر : هذه سنة تفرد بها أهل الكوفة ، هذا صحيح والذي بعده " . وترجم البخاري " باب جهر الإمام بالتأمين " .
وقال عطاء : " آمين " دعاء ، أمن ابن الزبير ومن وراءه حتى إن للمسجد للجة . قال الترمذي : وبه يقول غير واحد من أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم ، يرون أن يرفع الرجل صوته بالتأمين ولا يخفيها . وبه يقول الشافعي وأحمد وإسحاق . وفي الموطأ والصحيحين قال ابن شهاب : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " آمين " . وفي سنن ابن ماجه عن أبي هريرة قال : ترك الناس آمين ; وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال : غير المغضوب عليهم ولا الضالين قال : " آمين " حتى يسمعها أهل الصف الأول فيرتج بها المسجد . وأما حديث أبي موسى وسمي فمعناهما التعريف بالموضع الذي يقال فيه آمين ; وهو إذا قال الإمام : ولا الضالين ليكون قولهما معا ، ولا يتقدموه بقول : آمين ; لما ذكرناه ، والله أعلم . ولقوله عليه السلام : إذا أمن الإمام فأمنوا . وقال ابن نافع في كتاب ابن الحارث : لا يقولها المأموم إلا أن يسمع الإمام يقول : ولا الضالين . وإذا كان ببعد لا يسمعه فلا يقل . وقال ابن عبدوس : يتحرى قدر القراءة ويقول : آمين .
السابعة : قال أصحاب أبي حنيفة : الإخفاء بآمين أولى من الجهر بها لأنه دعاء ، وقد قال الله تعالى : ادعوا ربكم تضرعا وخفية . قالوا : والدليل عليه ما روي في تأويل قوله تعالى : قد أجيبت دعوتكما . قال : كان موسى يدعو وهارون يؤمن ، فسماهما الله داعيين .
الجواب : أن إخفاء الدعاء إنما كان أفضل لما يدخله من الرياء . وأما ما يتعلق بصلاة الجماعة فشهودها إشهار شعار ظاهر ، وإظهار حق يندب العباد إلى إظهاره ; وقد ندب الإمام إلى إشهار قراءة الفاتحة المشتملة على الدعاء والتأمين في آخرها ; فإذا كان الدعاء مما يسن الجهر فيه فالتأمين على الدعاء تابع له وجار مجراه ; وهذا بين .
الثامنة : كلمة آمين لم تكن قبلنا إلا لموسى وهارون عليهما السلام . ذكر الترمذي الحكيم في ( نوادر الأصول ) : حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد قال حدثنا أبي قال حدثنا رزين مؤذن مسجد هشام بن حسان قال حدثنا أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله أعطى أمتي ثلاثا لم تعط أحدا قبلهم السلام وهو تحية أهل الجنة وصفوف الملائكة وآمين إلا ما كان من موسى وهارون قال أبو عبد الله : معناه أن موسى دعا على فرعون ، وأمن هارون ، فقال الله تبارك اسمه عندما ذكر دعاء موسى في تنزيله : قد أجيبت دعوتكما ولم يذكر مقالة هارون ; وقال موسى : ربنا ، فكان من هارون التأمين ، فسماه داعيا في تنزيله ، إذ صير ذلك منه دعوة . وقد قيل : إن أمين خاص لهذه الأمة ; لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على السلام والتأمين أخرجه ابن ماجه من حديث حماد بن سلمة عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال . . . ; الحديث . وأخرج أيضا من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على آمين فأكثروا من قول آمين . قال علماؤنا رحمة الله عليهم : إنما حسدنا أهل الكتاب لأن أولها حمد لله وثناء عليه ثم خضوع له واستكانة ، ثم دعاء لنا بالهداية إلى الصراط المستقيم ، ثم الدعاء عليهم مع قولنا آمين .
وفيه ست وثلاثون مسألة :
الأولى : قوله سبحانه وتعالى : الحمد لله روى أبو محمد عبد الغني بن سعيد الحافظ من حديث أبي هريرة وأبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا قال العبد الحمد لله قال صدق عبدي الحمد لي . وروى مسلم عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحم
- الطبرى : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
الْحَمْدُ لِلَّهِ :
قال أبو جعفر: ومعنى (الْحَمْدُ لِلَّهِ) : الشكر خالصًا لله جل ثناؤه دون سائر ما يُعبد من دونه، ودون كلِّ ما برَأَ من خلقه (46) ، بما أنعم على عباده من النِّعم التي لا يُحصيها العدد، ولا يحيط بعددها غيره أحدٌ، في تصحيح الآلات لطاعته، وتمكين جوارح أجسام المكلَّفين لأداء فرائضه، مع ما بسط لهم في دنياهم من الرزق، وَغذَاهم به من نعيم العيش، من غير استحقاق منهم لذلك عليه، ومع ما نبَّههم عليه ودعاهم إليه، من الأسباب المؤدِّية إلى دوام الخلود في دار المُقام في النعيم المقيم. فلربِّنا الحمدُ على ذلك كله أولا وآخرًا.
وبما ذكرنا من تأويل قول ربنا جلّ ذكره وتقدَّست أسماؤه: (الْحَمْدُ لِلَّهِ)، جاء الخبرُ عن ابن عباس وغيره:-
151 - حدثنا محمد بن العلاء، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عُمارة، قال: حدثنا أبو رَوْق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: قال جبريل لمحمد صلى الله عليهما: قل يا محمد " الحمد لله " قال ابن عباس: " الحمد لله ": هو الشكر لله، والاستخذاء لله، والإقرار بنعمته وهدايته وابتدائه، وغير ذلك. (47)
152 - وحدثني سعيد بن عمرو السَّكُوني، قال: حدثنا بقية بن الوليد، قال: حدثني عيسى بن إبراهيم، عن موسى بن أبي حَبيب، عن الحكم بن عُمَير - وكانت له صحبة - قال: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: إذا قلت " الحمد لله ربِّ العالمين "، فقد شكرت الله، فزادك. (48)
قال: وقد قيل: إنّ قول القائل " الحمد لله "، ثناء على الله بأسمائه وصفاته الحُسنى، وقوله: " الشكر لله "، ثناء عليه بنعمه وأياديه.
وقد رُوي عن كعب الأحبار أنه قال: " الحمد لله "، ثناءٌ على الله. ولم يبيّن في الرواية عنه، من أي معنيي الثناء اللذين ذكرنا ذلك.
153 - حدثنا يونس بن عبد الأعلى الصَّدَفي، قال: أنبأنا ابن وهب، قال: حدثني عمر بن محمد، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، قال: أخبرني السلولي، عن كعب، قال: من قال " الحمد لله "، فذلك ثناء على الله. (49)
154 - حدثني علي بن الحسن الخرّاز، قال: حدثنا مسلم بن عبد الرحمن الجَرْمي، قال: حدثنا محمد بن مصعب القُرْقُساني، عن مُبارك بن فَضالة، عن الحسن، عن الأسود بن سريع: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ليس شيءٌ أحبَّ إليه الحمد، من الله تعالى، ولذلك أثنى على نَفسه فقال: " الحمد لله " (50) .
قال أبو جعفر: ولا تَمانُع بين أهل المعرفة بلغات العرب من الحُكْم (51) ، لقول القائل: " الحمد لله شكرًا " - بالصحة. فقد تبيّن - إذْ كان ذلك عند جميعهم صحيحًا - أنّ الحمد لله قد يُنطق به في موضع الشكر، وأن الشكر قد يوضع موضعَ الحمد. لأن ذلك لو لم يكن كذلك، لما جاز أن يُقال " الحمد لله شكرًا "، فيُخْرِج من قول القائل " الحمد لله " مُصَدَّرَ: " أشكُرُ"، لأن الشكر لو لم يكن بمعنى الحمد ، كان خطأ أن يُصَدَّرَ من الحمد غيرُ معناه وغير لفظه. (52)
فإن قال لنا قائل: وما وجه إدخال الألف واللام في الحمد؟ وهلا قيل: حمدًا لله رب العالمين؟
قيل: إن لدخول الألف واللام في الحمد، معنى لا يؤديه قول القائل " حَمْدًا "، بإسقاط الألف واللام. وذلك أن دخولهما في الحمد مُنْبِئٌ عن أن معناه (53) : جميعُ المحامد والشكرُ الكامل لله. ولو أسقطتا منه لما دَلّ إلا على أنّ حَمْدَ قائلِ ذلك لله، دون المحامد كلها. إذْ كان معنى قول القائل: " حمدًا لله " أو " حمدٌ لله ": أحمد الله حمدًا، وليس التأويل في قول القائل: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، تاليًا سورةَ أم القرآن: أحمدُ الله، بل التأويلُ في ذلك ما وصفنا قبلُ، من أنّ جميع المحامد لله بألوهيّته وإنعامه على خلقه بما أنعم به عليهم من النعم التي لا كِفاء لها في الدين والدنيا، والعاجل والآجل.
ولذلك من المعنى، تتابعتْ قراءة القرّاء وعلماء الأمة على رَفع الحمد من (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) دون نصبها، الذي يؤدي إلى الدلالة على أن معنى تاليه كذلك: أحمد الله حمدًا. ولو قرأ قارئ ذلك بالنصب، لكان عندي مُحيلا معناه، ومستحقًّا العقوبةَ على قراءته إياه كذلك، إذا تعمَّد قراءتَه كذلك، وهو عالم بخطئه وفساد تأويله.
فإن قال لنا قائل: وما معنى قوله " الحمد لله "؟ أحَمِد الله نفسه جلّ ثناؤه فأثنى عليها، ثم علَّمنَاه لنقول ذلك كما قال ووصَف به نفسه؟ فإن كان ذلك كذلك، فما وجه قوله تعالى ذكره إذًا إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ وهو عزّ ذكرُه معبودٌ لا عابدٌ؟ أم ذلك من قِيلِ جبريلَ أو محمدٍ رَسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقد بَطل أن يكون ذلك لله كلامًا .
قيل: بل ذلك كله كلام الله جل ثناؤه، ولكنه جلّ ذكره حَمِد نفسه وأثنى عليها بما هو له أهلٌ، ثم علَّم ذلك عباده، وفرض عليهم تلاوته، اختبارًا منه لهم وابتلاءً، فقال لهم قولوا: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، وقولوا: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ . فقوله إِيَّاكَ نَعْبُدُ مما علمهم جلّ ذكره أن يقولوه ويَدينُوا له بمعناه، وذلك موصول بقوله: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، وكأنه قال: قولوا هذا وهذا.
فإن قال: وأين قوله: " قولوا "، فيكونَ تأويلُ ذلك ما ادَّعَيْتَ؟
قيل: قد دللنا فيما مضى أن العرب من شأنها - إذا عرفتْ مكان الكلمة، ص[ 1-140 ] ولم تَشكَّك أنّ سامعها يعرف، بما أظهرت من منطقها، ما حذفت - (54) حذفُ ما كفى منه الظاهرُ من منطقها، ولا سيما إن كانت تلك الكلمة التي حُذفت، قولا أو تأويلَ قولٍ، كما قال الشاعر:
وأَعْلَــمُ أَنَّنِــي سَــأَكُونُ رَمْسًـا
إذَا سَـــارَ النَّـــوَاعِجُ لا يَسِــيرُ (55)
فَقَــالَ السّــائلون لِمَــنْ حَـفَرْتُمْ?
فَقَــالَ المُخْــبِرُون لَهُــمْ: وزيـرُ (56)
قال أبو جعفر: يريد بذلك، فقال المخبرون لهم: الميِّتُ وزيرٌ، فأسقَط الميت، إذ كان قد أتى من الكلام بما دلّ على ذلك. وكذلك قول الآخر:
وَرأَيــتِ زَوْجَــكِ فــي الــوغَى
مُتَقَلِّــــدًا سَــــيْفًا وَرُمْحَـــا (57)
وقد علم أنّ الرمح لا يُتَقَلَّد، وإنما أراد: وحاملا رمحًا، ولكن لما كان معلومًا معناه، اكتفى بما قد ظَهر من كلامه، عن إظهار ما حذف منه. وقد يقولون للمسافر إذا ودَّعوه: " مُصاحَبًا مُعافًى "، يحذفون " سر، واخرج " ، إذ كان معلومًا معناه، وإن أسقط ذكره.
فكذلك ما حُذف من قول الله تعالى ذكره: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، لمَّا عُلم بقوله جل وعزّ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ ما أراد بقوله: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، من معنى أمره عبادَه، أغنتْ دلالةُ ما ظُهِر عليه من القول عن إبداء ما حُذف.
وقد روينا الخبرَ الذي قدمنا ذكره مبتَدأ في تأويل قول الله: (58) (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، عن ابن عباس، وأنه كان يقول: إن جبريل قال لمحمد: قل يا محمد: " الحمد لله رب العالمين "، وبيّنا أن جبريل إنما علّم محمدًا ما أُمِر بتعليمه إياه (59) . وهذا الخبر يُنبئ عن صحة ما قلنا في تأويل ذلك.
القول في تأويل قوله : رَبِّ .
قال أبو جعفر: قد مضى البيان عن تأويل اسم الله الذي هو اللَّهِ ، في بِسْمِ اللَّهِ ، فلا حاجة بنا إلى تكراره في هذا الموضع.
وأما تأويل قوله (رَبِّ)، فإن الرّب في كلام العرب منصرفٌ على معان: فالسيد المطاع فيها يدعَى ربًّا، ومن ذلك قول لَبِيد بن ربيعة:
وأَهْلكْــنَ يومًــا ربَّ كِنْـدَة وابنَـه
ورَبَّ مَعـدٍّ , بيـن خَـبْتٍ وعَرْعَـرِ (60)
يعني بربِّ كندة: سيِّد كندة. ومنه قول نابغة بني ذُبيان:
تَخُــبُّ إلـى النُّعْمَـانِ حَـتَّى تَنالَـهُ
فِـدًى لـكَ مـن رَبٍّ طَـرِيفِي وَتَالِدِي (61)
والرجل المصلح للشيء يُدعى ربًّا، ومنه قول الفرزدق بن غالب:
كــانُوا كَسَـالِئَةٍ حَمْقَـاءَ إذْ حَـقَنتْ
سِـلاءَها فِـي أدِيـم غَـيْرِ مَرْبُـوبِ (62)
يعني بذلك: في أديم غير مُصلَحٍ. ومن ذلك قيل: إن فلانًا يَرُبُّ صنيعته عند فلان؛ إذا كان يحاول إصلاحها وإدامتها، ومن ذلك قول علقمة بن عَبَدة:
فكُـنْتَ امـرَأً أَفْضَـتْ إليـك رِبَابَتي
وَقَبْلَــكَ رَبَّتْنـي, فَضِعْـتُ رُبُـوبُ (63)
يعنى بقوله: " أفضتْ إليك " أي وصلتْ إليك رِبَابتي، فصرتَ أنت الذي ترُبُّ أمري فتصلحه، لمّا خرجتُ من ربابة غيرك من الملوك الذين كانوا قبلك عليّ (64) ، فضيَّعوا أمري وتركوا تفقُّده - وهم الرُّبوب: واحدهم ربٌّ . والمالك للشيء يدعى رَبَّه. وقد يتصرف أيضًا معنى " الربّ" في وجوه غير ذلك، غير أنها تعود إلى بعض هذه الوجوه الثلاثة.
فربّنا جلّ ثناؤه: السيد الذي لا شِبْه لهُ، ولا مثل في سُؤدده، والمصلح أمر خلقه بما أسبغ عليهم من نعمه، والمالك الذي له الخلق والأمر.
وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله جلّ ثناؤه (رَبِّ الْعَالَمِينَ)، جاءت الرواية عن ابن عباس:-
155 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا ص[ 1-143 ] بشر بن عُمارة، قال: حدثنا أبو رَوْق، عن الضحّاك، عن ابن عباس، قال: قال جبريل لمحمد: " يا محمد قل: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)"، قال ابن عباس: يقول: قل الحمد لله الذي له الخلق كله - السمواتُ كلهن ومن فيهنّ، والأَرَضُون كلُّهنّ ومن فيهنّ وما بينهن، مما يُعلم ومما لا يُعلم. يقول: اعلم يا محمد أن ربَّك هذا لا يشبهه شيء. (65)
القول في تأويل قوله : الْعَالَمِينَ .
قاله أبو جعفر: والعالَمون جمع عالَم، والعالَم: جمعٌ لا واحدَ له من لفظه، كالأنام والرهط والجيش، ونحو ذلك من الأسماء التي هي موضوعات على جِمَاعٍ لا واحد له من لفظه.
والعالم اسم لأصناف الأمم، وكل صنف منها عالَمٌ، وأهل كل قَرْن من كل صنف منها عالم ذلك القرن وذلك الزمان. فالإنس عالَم، وكل أهل زمان منهم عالمُ ذلك الزمان. والجنُّ عالم، وكذلك سائر أجناس الخلق، كلّ جنس منها عالمُ زمانه. ولذلك جُمع فقيل: عالمون، وواحده جمعٌ، لكون عالم كلّ زمان من ذلك عالم ذلك الزمان. ومن ذلك قول العجاج:
* فَخِنْدِفٌ هامَةُ هَذَا العَالَمِ * (66)
فجعلهم عالمَ زمانه. وهذا القول الذي قلناه، قولُ ابن عباس وسعيد بن جبير، وهو معنى قول عامّة المفسرين.
ص[ 1-144 ]
156 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عُمارة، قال: حدثنا أبو رَوْق، عن الضحاك، عن ابن عباس: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، الحمد لله الذي له الخلق كله: السموات والأرضون ومَن فيهنّ، وما بينهن، مما يُعلم ولا يعلم. (67)
157 - وحدثني محمد بن سنان القَزَّاز، قال حدثنا أبو عاصم، عن شبيب، عن عكرمة، عن ابن عباس: (رب العالمين): الجن والإنس. (68)
158 - حدثني علي بن الحسن، قال: حدثنا مسلم بن عبد الرحمن، قال: حدثنا محمد بن مصعب، عن قيس بن الربيع، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس، في قول الله جل وعزّ(رَبِّ الْعَالَمِينَ) ، قال: ربِّ الجن والإنس. (69)
159 - حدثنا أحمد بن إسحاق بن عيسى الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا قيس، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير: قوله: (رَبِّ الْعَالَمِينَ) ، قال: الجنّ والإنس. (70)
160 - حدثني أحمد بن عبد الرحيم البرْقي، قال: حدثني ابن أبي مريم، عن ابن لَهِيعة، عن عطاء بن دينار، عن سعيد بن جبير، قوله: (رَبِّ الْعَالَمِينَ) قال: ابن آدم، والجن والإنس، كل أمة منهم عالمٌ على حِدَته. (71)
161 - حدثني محمد بن حُميد، قال: حدثنا مهران، عن سفيان، عن مجاهد: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) ، قال: الإنس والجن. (72)
162 - حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، عن سفيان، عن رجل، عن مجاهد بمثله. (73)
163 - حدثنا بشر بن معاذ العَقَدي، قال: حدثنا يزيد بن زُرَيْع، عن سعيد، عن قتادة: (رَبِّ الْعَالَمِينَ) قال: كلّ صنف عالم. (74)
ص[ 1-146 ]
164 - حدثني أحمد بن حازم الغِفَاري، قال: حدثنا عُبيد الله بن موسى، عن أبي جعفر، عن ربيع بن أنس، عن أبي العالية، في قوله: (رَبِّ الْعَالَمِينَ)، قال: الإنس عالَمٌ، والجنّ عالم، وما سوى ذلك ثمانية عشر ألف عالم، أو أربعةَ عشر ألف عالم - هو يشكّ - من الملائكة على الأرض، وللأرض أربع زوايا، في كل زاوية ثلاثة آلافِ عالم وخمسمائة عالَمٍ، خلقهم لعبادته. (75)
165 - حدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين بن داود، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جُريج، في قوله: (رَبِّ الَعَالَمِينَ) قال: الجن والإنس. (76)
----------------
الهوامش :
(46) في المطبوعة : "ما يرى" ، والصواب من المخطوطة وابن كثير 1 : 42 .
(47) الحديث 151- هذا الإسناد سبق بيان ضعفه في 137 . و "محمد بن العلاء" شيخ الطبري : هو "أبو كريب" نفسه في الإسناد السابق ، مرة يسميه ومرة يكنيه . وهذا الحديث نقله ابن كثير في التفسير 1 : 43 ، والسيوطي في الدر المنثور 1 : 11 ، والشوكاني في تفسيره الذي سماه فتح القدير 1 : 10 ، ونسبوه أيضًا لابن أبي حاتم في تفسيره .
(48) الحديث 152- نقله ابن كثير 1 : 43 بإسناد الطبري هذا ، وذكره السيوطي في الدر المنثور 1 : 11 ونسبه للطبري والحاكم في تاريخ نيسابور والديلمي "بسند ضعيف" . وإسناده ضعيف حقًا ، بل هو إسناد لا تقوم له قائمة ، كما سنذكر :
أما بقية بن الوليد ، فالحق أنه ثقة ، وإنما نعوا عليه التدليس ، ولا موضع له هنا ، فإنه صرح بالتحديث .
ولكن عيسى بن إبراهيم ، وهو القرشي الهاشمي ، كل البلاء منه في هذا الحديث ، وفي أحاديث من نحوه ، رواها بهذا الإسناد . وقد قال فيه البخاري في الضعفاء : 27 : "منكر الحديث" ، وكذلك النسائي : 22 . وترجم له ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 3 / 1 271 - 272 ، وروى عن أبيه قال : "متروك الحديث" ، وعن ابن معين : "ليس بشيء" ، وقال ابن حبان في الضعفاء ، الورقة 163 : "لا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد" . وترجمته في الميزان ولسان الميزان فيها العجب .
وشيخه "موسى بن أبي حبيب" مثله : ضعيف تالف ، وقال الذهبي في الميزان : "ضعفه أبو حاتم ، وخبره ساقط . وله عن الحكم بن عمير ، رجل قيل : له صحبة . والذي أراه أنه لم يلقه . وموسى -مع ضعفه- فمتأخر عن لقي صحابي كبير" . فالبلاء من هذين أو من أحدهما .
حتى لقد شك بعض الحفاظ في وجود الصحابي نفسه "الحكم بن عمير" ، من أجلهما! فترجم له ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 1 / 2 / 125 ، قال : "الحكم بن عمير : روى عن النبي صلى الله عليه وسلم ، لا يذكر السماع ولا لقاء ، أحاديث منكرة ، من رواية ابن أخيه موسى بن أبي حبيب ، وهو شيخ ضعيف الحديث ، ويروي عن موسى بن أبي حبيب عيسى بن إبراهيم ، وهو ذاهب الحديث ، سمعت أبي يقول ذلك" .
وحتى إن الذهبي أنكر صحبته وترجم له في الميزان ، وأخطأ في النقل فيه عن أبي حاتم ، ذكر أنه ضعف الحكم! وكلام أبي حاتم -كما ترى- غير ذلك . وتعقبه الحافظ في لسان الميزان 2 : 337 وأثبت أنه صحابي ، بما ذكره ابن عبد البر وابن منده وأبو نعيم والترمذي وغيرهم ، وأن الدار قطني قال : "كان بدريًا" .
وقد ذكره ابن حبان في كتاب الثقات (ص 54) في طبقة الصحابة ، وقال : "يقال إن له صحبة" . ونقل الحافظ هذا في اللسان عن ابن حبان ، ولكن سها فزعم أنه ذكره "في ثقات التابعين" .
وترجمه ابن عبد البر في الاستيعاب ، رقم 476 : باسم "الحكم بن عمرو الثمالي ، وثمالة في الأزد ، شهد بدرًا ، ورويت عنه أحاديث مناكير من أحاديث أهل الشأم ، لا تصح" . وتسمية أبيه باسم "عمرو" خطأ قديم في نسخ الاستيعاب ، لأن ابن الأثير تبعه في أسد الغابة 1 : 26 ، وأشار إلى الغلط فيه ، ثم ترجمه على الصواب : "الحكم بن عمير الثمالي ، من الأزد ، وكان يسكن حمص" . وحقق الحافظ ترجمته في الإصابة 2 : 30 تحقيقًا جيدًا .
(49) الخبر 153- هذا الإسناد صحيح ، وسواء صح أم ضعف ، فلا قيمة له ، إذ منتهاه إلى كعب الأحبار . وما كان كلام كعب حجة قط ، في التفسير وغيره . و "الصدفي" : بفتح الصاد والدال المهملتين ، نسبة إلى "الصدف" بفتح الصاد وكسر الدال ، وهي قبيلة من حمير ، نزلت مصر . و "السلولي" ، هو : عبد الله بن ضمرة السلولي ، تابعي ثقة .
وهذا الخبر -عن كعب- ذكره ابن كثير 1 : 43 دون إسناد ولا نسبة . وذكر السيوطي 1 : 11 ونسبه للطبري وابن أبي حاتم .
(50) الحديث 154 - إسناده صحيح . علي بن الحسن بن عبدويه أبو الحسن الخراز ، شيخ الطبري : ثقة ، مترجم في تاريخ بغداد 11 : 374 - 375 . و "الخراز" : ثبت في الطبري بالخاء والراء وآخره زاي . وفي تاريخ بغداد "الخزاز" بزاءين ، ولم نستطع الترجيح بينهما . مسلم بن عبد الرحمن الجرمي : مترجم في لسان الميزان 6 : 32 باسم "مسلم بن أبي مسلم" فلم يذكر اسم أبيه ، وهو هو . ترجمه الخطيب في تاريخ بغداد 13 : 100 ، قال : "مسلم بن أبي مسلم الجرمي ، وهو مسلم بن عبد الرحمن" ، وقال : "كان ثقة ، نزل طرسوس ، وبها كانت وفاته" . و "الجرمي" : رسمت في أصول الطبري ولسان الميزان "الحرمي" بدون نقط . ولكنهم لم ينصوا على ضبطه . وعادتهم في مثل هذا أن ينصوا على ضبط القليل والشاذ ، وأن يدعوا الكثير الذي يأتي على الجادة في الضبط ، والجادة في هذا الرسم "الجرمي" بالجيم ، وبذلك رسم في تاريخ بغداد ، فعن هذا أو ذاك رجحناه . و "محمد بن مصعب القرقساني" ، و "مبارك بن فضالة" : مختلف فيهما . وقد رجحنا توثيقهما في شرح المسند : الأول في 3048 ، والثاني في 521 . و "الحسن" : هو البصري ، وقد أثبتنا في شرح صحيح ابن حبان ، في الحديث 132 أنه سمع من الأسود بن سريع .
وقد ذكر السيوطي هذا الحديث في الدر المنثور 1 : 12 عن تفسير الطبري . ورواه أحمد في المسند بمعناه مختصرًا 15650 (3 : 435 حلبي) عن روح بن عبادة عن عوف بن أبي جميلة عن الحسن عن الأسود بن سريع ، قال : "قلت : يا رسول الله ، ألا أنشدك محامد حمدت بها ربي؟ قال : أما إن ربك يحب الحمد" . وهذا إسناد صحيح ، رجاله كلهم ثقات أثبات . وذكره ابن كثير في التفسير 1 : 43 عن المسند . وكذلك ذكره السيوطي ، ونسبه أيضًا للنسائي والحاكم وغيرهما .
ورواه أحمد أيضًا 15654 ، والبخاري في الأدب المفرد : 51 ، بنحوه ، في قصة مطولة ، من رواية عبد الرحمن بن أبي بكرة عن الأسود بن سريع .
ومعناه ثابت صحيح ، من حديث ابن مسعود ، في المسند 4153 : "لا أحد أغير من الله ، ولذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، ولا أحد أحب إليه المدح من الله ، ولذلك مدح نفسه" . ورواه أيضًا البخاري ومسلم وغيرهما .
(51) انظر ما كتبناه آنفًا : 126 عن معنى "لا تمانع" .
(52) تكلم العلماء في نقض ما ذهب إليه أبو جعفر من أن "الحمد والشكر" بمعنى ، وأن أحدهما يوضع موضع الآخر ، وهو ما ذهب إليه المبرد أيضًا . انظر القرطبي 1 : 116 ، وابن كثير 1 : 42 ، وأخطأ النقل عن القرطبي ، فظنه استدل لصحة قول الطبري ، وهو وهم . والذي قاله الطبري أقوى حجة وأعرق عربية من الذين ناقضوه . وقوله "مصدر أشكر" ، وقوله "أن يصدر من الحمد" ، يعني به المفعول المطلق . وانظر ما مضى : 117 ، تعليق : 1 .
(53) في المطبوعة : "مبني على أن معناه" ، أدخلوا عليه التبديل .
(54) سياق الكلام : "أن العرب من شأنها . . . حذف" وما بينهما فصل .
(55) تأتي في تفسير آية سورة المؤمنون : 87 (18 : 27 بولاق) . ، ونسبهما لبعض بني عامر ، وكذلك في معاني القرآن للفراء 1 : 170 وهما في البيان والتبيين 3 : 184 منسوبان للوزيري ، ولم أعرفه ، وفيها اختلاف في الرواية . الرمس : القبر المسوى عليه التراب . يقول : أصبح قبرا يزار أو يناح عليه . ورواه الجاحظ : "سأصير ميتًا" ، وهي لا شيء . والنواعج جمع ناعجة : وهي الإبل السراع ، نعجت في سيرها ، أي سارت في كل وجه من نشاطها . وفي البيان ومعاني الفراء "النواجع" ، وليست بشيء .
(56) رواية الجاحظ : "فقال السائلون : من المسجى" . وفي المعاني "السائرون" .
(57) يأتي في تفسير آيات سورة البقرة : 7 / وسورة آل عمران : 49 / وسورة المائدة : 53 / وسورة الأنعام : 99 / وسورة الأنفال : 14 / وسورة يونس : 71 / وسورة الرحمن : 22 . وهو بيت مستشهد به في كل كتاب .
(58) في المطبوعة : "في تنزيل قول الله" .
(59) انظر ما مضى آنفًا لحديث رقم : 151 .
(60) ديوانه القصيدة : 15 / 32 . وسيد كندة هو حجر أبو امرئ القيس . ورب معد : حذيفة بن بدر ، كما يقول شارح ديوانه ، وأنا في شك منه ، فإن حذيفة بن بدر قتل بالهباءة . ولبيد يذكر خبتًا وعرعرًا ، وهما موضعان غيره .
(61) ديوانه : 89, والمخصص 7 : 154 . الطريف والطارف : المال المستحدث, خلاف التليد والتالد : وهو العتيق الذي ولد عندك .
(62) ديوانه : 25 . سلأ السمن يسلؤه : طبخه وعالجه فأذاب زبده . والسلاء ، بكسر السين : السمن . وحقن اللبن في الوطب ، والماء في السقاء : حبسه فيه وعبأه . رب نحى السمن يربه : دهنه بالرب ، وهو دبس كل ثمرة ، وكانوا يدهنون أديم النحى بالرب حتى يمتنوه ويصلحوه ، فتطيب رائحته ، ويمنع السمن أن يرشح ، من غير أن يفسد طعمه أو ريحه . وإذا لم يفعلوا ذلك بالنحى فسد السمن . وأديم مربوب : جدا قد أصلح بالرب . يقول : فعلوا فعل هذه الحمقاء ، ففسد ما جهدوا في تدبيره وعمله .
(63) ديوانه : 29 ، ويأتي في تفسير آية سورة آل عمران : 79 ، (3 : 233 بولاق) والمخصص 17 : 154 ، والشعر يقوله للحارث بن أبي شمر الغساني ملك غسان ، وهو الحارث الأعرج المشهور . قال ابن سيده : "ربوب : جمع رب ، أي الملوك الذين كانوا قبلك ضيعوا أمري ، وقد صارت الآن ربابتي إليك - أي تدبير أمري وإصلاحه - فهذا رب بمعنى مالك ، كأنه قال : الذين كانوا يملكون أمري قبلك ضيعوه" . وقال الطبري فيما سيأتي : "يعني بقوله : ربتني : ولي أمري والقيام به قبلك من يربه ويصلحه فلم يصلحوه ، ولكنهم أضاعوني فضعت" . والربابة : المملكة ، وهي أيضًا الميثاق والعهد . وبها فسر هذا البيت ، وأيدوه برواية من روى بدل"ربابتي" ، "أمانتي" . والأول أجود .
(64) في المطبوعة : "من الملوك الذين كانوا" ، غيروه ليوافق ما ألفوا من العبارة .
(65) الحديث 155- سبق الكلام مفصلا في ضعف هذا الإسناد ، برقم 137 . وهذا الحديث في ابن كثير 1 : 44 ، والدر المنثور 1 : 13 ، والشوكاني 1 : 11 . ونسبه الأخيران أيضًا لابن أبي حاتم . وفي المطبوع وابن كثير "والأرض ومن فيهن" .
(66) ديوانه : 60 ، وطبقات فحول الشعراء : 64 ، وخندف : أم بني إلياس بن مضر ، مدركة وطابخة ، وتشعبت منهم قواعد العرب الكبرى .
(67) الحديث 156- هو مختصر مما قبله : 155 .
(68) الخبر 157- إسناد صحيح . محمد بن سنان القزاز ، شيخ الطبري : تكلموا فيه من أجل حديث واحد . والحق أنه لا بأس به ، كما قال الدارقطني . وهو مترجم في التهذيب ، وله ترجمة جيدة في تاريخ بغداد 5 : 343- 346 . أبو عاصم : هو النبيل ، الضحاك بن مخلد ، الحافظ الحجة . شبيب : هو ابن بشر البجلي ، ووقع في التهذيب 4 : 306 "الحلبي" وهو خطأ مطبعي ، صوابه في التاريخ الكبير للبخاري 2 / 2 / 232 / 233 والجرح والتعديل لابن أبي حاتم 2 / 1 / 357- 358 والتقريب وغيرها ، وهو ثقة ، وثقه ابن معين .
(69) الخبر 158- إسناده حسن على الأقل ، لأن عطاء بن السائب تغير حفظه في آخر عمره ، وقيس بن الربيع قديم ، لعله سمع منه قبل الاختلاط ، ولكن لم نتبين ذلك بدليل صريح . ووقع في هذا الإسناد خطأ في المطبوع "حدثنا مصعب" ، وصوابه من المخطوطة "حدثنا محمد بن مصعب" ، وهو القرقساني ، كما مضى في الإسناد 154 .
(70) الخبر 159- إسناده حسن كالذي قبله . وأبو أحمد الزبيري : هو محمد بن عبد الله ابن الزبير الأسدي ، من الثقات الكبار ، من شيوخ أحمد بن حنبل وغيره من الحفاظ . وقيس : هو ابن الربيع . وهذه الأخبار الثلاثة 157- 159 ، ولفظها واحد ، ذكرها ابن كثير 1 : 44 خبرًا واحدًا دون إسناد . وذكرها السيوطي في الدر المنثور 1 : 13 خبرًا واحدًا ونسبه إلى "الفريابي ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم وصححه ، عن ابن عباس" .
(71) الأثر 160 - أحمد بن عبد الرحيم البرقي : اشتهر بهذا ، منسوبًا إلى جده ، وكذلك أخوه "محمد" وهو : أحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم . وقد مضت رواية الطبري عنه أيضًا برقم 22 باسم "ابن البرقي" . ابن أبي مريم : هو سعيد . ابن لهيعة هو عبد الله . عطاء بن دينار المصري : ثقة ، وثقه أحمد بن حنبل وأبو داود وغيرهما وروى ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 3 / 1 / 332 وفي المراسيل : 58 عن أحمد بن صالح ، قال : " عطاء بن دينار ، هو من ثقات أهل مصر ، وتفسيره - فيما يروى عن سعيد بن جبير - : صحيفة ، وليست له دلالة على أنه سمع من سعيد بن جبير " . وروى في الجرح عن أبيه أبي حاتم ، قال : " هو صالح الحديث ، إلا أن التفسير أخذه من الديوان ، فإن عبد الملك بن مروان كتب يسأل سعيد بن جبير أن يكتب إليه بتفسير القرآن ، فكتب سعيد بن جبير بهذا التفسير إليه ، فوجده عطاء بن دينار في الديوان ، فأخذه فأرسله عن سعيد بن جبير" .
(72) الأثر 161 - إسناده إلى مجاهد ضعيف . لأن سفيان ، وهو الثوري ، لم يسمع من مجاهد ؛ لأن الثوري ولد سنة 97 ، ومجاهد مات سنة 100 أو بعدها بقليل ، والظاهر عندي أن هذه الرواية من أغلاط مهران بن أبي عمر ، راويها عن الثوري ، فإن رواياته عن الثوري فيها اضطراب كما بينا في الحديث الماضي 11 .
وهذا الأثر ذكره ابن كثير 1 : 44 دون نسبة ولا إسناد . وذكره السيوطي في الدر المنثور 1 : 13 ، ونسبه أيضًا لعبد بن حميد .
(73) الأثر 162 - إسناده ضعيف ، لإبهام الرجل راويه عن مجاهد . وهو يدل على غلط مهران في الإسناد قبله ، إذ جعله عن الثوري عن مجاهد مباشرة ، دون واسطة .
(74) الأثر 163 - سعيد : هو ابن أبي عروبة ، وقد مضى أثر آخر عن قتادة بهذا الإسناد. 119 وهذا الأثر ذكره السيوطي في الدر المنثور 1 : 13 ، وفي نسبته هناك خطأ مطبعي : " ابن جريج " بدل " ابن جرير " . وكلام ابن جريج سيأتي 165 مرويًا عنه لا راويًا .
(75) الأثر 164 - أبو جعفر : هو الرازي التميمي ، وهو ثقة ، تكلم فيه بعضهم ، وقال ابن عبد البر : "هو عندهم ثقة ، عالم بتفسير القرآن" . وله ترجمة وافية في تاريخ بغداد 11 : 143 - 147 . وهذا الأثر عن أبي العالية ذكره ابن كثير 1 : 45 والسيوطي 1 : 13 بأطول مما هنا قليلا ، ونسبه أيضًا لابن أبي حاتم ، وقال ابن كثير : "وهذا كلام غريب ، يحتاج مثله إلى دليل صحيح" . وهذا حق .
(76) الأثر 165 - سبق الكلام على هذا الإسناد 144 . وهذا الأثر ذكره ابن كثير 1 : 44 دون نسبة ولا إسناد .
- ابن عاشور : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
الشأن في الخطاب بأمر مهم لم يسِبق للمخاطب به خطابٌ من نوعه أنْ يُسْتأنَس له قبل إلقاء المقصود وأن يهيَّأَ لتلقيه ، وأن يشوق إلى سماع ذلك وتُراضَ نفسه على الاهتمام بالعمل به ليستعد للتلقي بالتخلي عن كل ما شأنُه أن يكون عائقاً عن الانتفاع بالهدى من عناد ومكابرة أو امتلاء العقل بالأوهام الضالة ، فإن النفس لا تكاد تنتفع بالعِظات والنذُر ، ولا تُشرق فيها الحكمة وصحة النظر ما بقي يخالجها العناد والبهتان ، وتخامر رشدها نزغات الشيطان ، فلما أراد الله أن تكون هذه السورة أُولى سور الكتاب المجيد بتوقيف النبيء صلى الله عليه وسلم كما تقدم آنفاً نبه الله تعالى قُراء كتابه وفاتحي مصحفه إلى أصول هذه التزكية النفسية بما لقنهم أن يبتدئوا بالمناجاة التي تضمنتها سورة الفاتحة من قوله : { إياك نعبد } إلى آخر السورة ، فإنها تضمنت أصولاً عظيمة : أولها التخلية عن التعطيل والشرك بما تضمنه { إياك نعبد } . الثاني التخلي عن خواطر الاستغناء عنه بالتبرىء من الحول والقوة تجاه عظمته بما تضمنه { وإياك نستعين } . الثالث الرغبة في التحَلي بالرشد والاهتداء بما تضمنه { اهدنا الصراط المستقيم } . الرابع الرغبة في التحلي بالأسوة الحسنة بما تضمنه { صراط الذين أنعمت عليهم } . الخامس التهمم بالسلامة من الضلال الصريح بما تضمنه { غير المغضوب عليهم } . السادس التهمم بسلامة تفكيرهم من الاختلاط بشبهات الباطل المموَّه بصورة الحق وهو المسمى بالضلال لأن الضلال خطأ الطريق المقصود بما تضمنه { ولا الضالين } .
وأنت إذا افتقدت أصول نجاح المرشِد في إرشاده والمسترشد في تلقيه على كثرتها وتفاريعها وجدتها عاكفة حول هذه الأركان الستة فكن في استقصائها لبيباً . وعسى أن أزيدك من تفصيلها قريباً . وإن الذي لقن أهل القرآن ما فيه جماع طرائق الرشد بوجه لا يحيط به غير علام الغيوب لم يهمل إرشادهم إلى التحلي بزينة الفضائل وهي أن يقدروا النعمة حق قدرها بشكر المنعم بها فأراهم كيف يُتَوِّجُون مناجاتَهم بحمد واهب العقل ومانح التوفيق ، ولذلك كان افتتاح كل كلام مهم بالتحميد سنة الكتاب المجيد . فسورة الفاتحة بما تقرر مُنَزَّلَةٌ من القرآن مَنْزلَة الديباجة للكتاب أو المقدمة للخطبة ، وهذا الأسلوب له شأن عظيم في صناعة الأدب العربي وهو أعون للفهم وأدعى للوعي .
وقد رسم أسلوب الفاتحة للمنشئين ثلاث قواعد للمقدمة : القاعدة الأولى إيجاز المقدمة لئلا تمل نفوس السامعين بطول انتظار المقصود وهو ظاهر في الفاتحة ، وليكون سنة للخطباء فلا يطيلوا المقدمة كي لا ينسَبوا إلى العِي فإنه بمقدار ما تطال المقدمة يقصر الغرض ، ومن هذا يظهر وجه وضعها قبل السور الطوال مع أنها سورة قصيرة . الثانية أن تشير إلى الغرض المقصود وهو ما يسمى براعة الاستهلال لأن ذلك يهيىء السامعين لسماع تفصيل ما سيرد عليهم فيتأهبوا لتلقيه إن كانوا من أهل التلقي فحسب ، أو لنقده وإكماله إن كانوا في تلك الدرجة ، ولأن ذلك يدل على تمكن الخطيب من الغرض وثقته بسداد رأيه فيه بحيث ينبه السامعين لوعيه ، وفيه سنة للخطباء ليحيطوا بأغراض كلامهم .
وقد تقدم بيان اشتمال الفاتحة على هذا عند الكلام على وجه تسميتها أم القرآن . الثالثة أن تكون المقدمة من جوامع الكلم وقد بين ذلك علماء البيان عند ذكرهم المواضع التي ينبغي للمتكلم أن يتأنق فيها . الرابع أن تفتتح بحمد الله .
إن القرآن هدى للناس وتبياناً للأحكام التي بها إصلاح الناس في عاجلهم وآجلهم ومعاشهم ومعادهم ولما لم يكن لنفوس الأمة اعتياد بذلك لزم أن يُهَيَّأَ المخاطبون بها إلى تلقيها ويعرف تهيؤهم بإظهارهم استعداد النفوس بالتخلي عن كل ما من شأنه أن يعوق عن الانتفاع بهاته التعاليم النافعة وذلك بأن يجردوا نفوسهم عن العناد والمكابرة وعن خلط معارفهم بالأغلاط الفاقرة ، فلا مناص لها قبل استقبال تلك الحكمة والنظر من الاتسام بميسم الفضيلة والتخلية عن السفاسف الرذيلة .
فالفاتحة تضمنت مناجاة للخالق جامعة التنزه عن التعطيل والإلحاد والدهرية بما تضمنه قوله : { ملك يوم الدين } ، وعن الإشراك بما تضمنه { إياك نعبد وإياك نستعين } ، وعن المكابرة والعناد بما تضمنه { اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم } فإن طلب الهداية اعتراف بالاحتياج إلى العلم ، ووصف الصراط بالمستقيم اعتراف بأن من العلم ما هو حق ومنه ما هو مشوب بشُبه وغلط ، ومَن اعترف بهذين الأمرين فقد أعد نفسه لاتباع أحسنهما ، وعن الضلالات التي تعتري العلوم الصحيحة والشرائع الحقة فتذهب بفائدتها وتنزل صاحبها إلى دَركةٍ أقل مما وقف عنده الجاهل البسيط ، وذلك بما تضمنه قوله : { غير المغضوب عليهم ولا الضالين } كما أجملناه قريباً ، ولأجل هذا سميت هاته السورة أم القرآن كما تقدم .
ولما لُقِّن المؤمنون هاته المناجاة البديعة التي لا يهتدي إلى الإحاطة بها في كلامه غير علام الغيوب سبحانه قدم الحمد عليها ليضعه المناجون كذلك في مناجاتهم جرياً على طريقة بلغاء العرب عند مخاطبة العظماء أن يفتتحوا خطابهم إياهم وطلبتهم بالثناء والذكر الجميل . قال أمية ابن أبي الصلت يمدح عبد الله بن جُدْعان :
أَأَذْكُرُ حاجتي أَم قَدْ كفاني ... حَيَاؤُكَ إِنَّ شيمتَك الحَياء
إذا أَثنى عليك المرءُ يوماً ... كفاه عن تَعَرُّضِه الثَّناءُ
فكان افتتاح الكلام بالتحميد سنة الكتاب المجيد لكل بليغ مُجيد ، فلم يزل المسلمون من يومئذٍ يُلقِّبُون كل كلام نفيس لم يشتمل في طالعه على الحمد بالأبتر أخذاً من حديث أبي هريرة عن النبيء صلى الله عليه وسلم « كلُّ أَمْرٍ ذِي بال لا يُبْدَأ فيه بالحمدُ لله أو بالحمد فهو أقطع » وقد لُقبت خطبة زياد ابن أبي سفيان التي خطبها بالبصرة بالبتراء لأنه لم يفتتحها بالحمد ، وكانت سورة الفاتحة لذلك منزَّلة من القرآن منزلة الديباجة للكتاب أو المقدمة للخطبة ، ولذلك شأن مهم في صناعة الإنشاء فإن تقديم المقدمة بين يدي المقصود أعود للأَفهام وأدعى لوعيها .
و ( الحمد ) هو الثناء على الجميل أي الوصف الجميل الاختياري فِعْلاً كان كالكرم وإغاثة الملهوف أم غيره كالشجاعة . وقد جعلوا الثناء جنساً للحمد فهو أعم منه ولا يكون ضده . فالثناء الذكر بخير مطلقاً وشذ من قال يستعمل الثناء في الذكر مطلقاً ولو بَشرَ ، ونسبا إلى ابن القطاع وغرَّه في ذلك ما رود في الحديث وهو قوله صلى الله عليه وسلم " من أثنيتم عليه خيراً وجبت له الجنة ومن أثنيتم عليه شراً وجبت له النار " وإنما هو مجاز دعت إليه المشاكلة اللفظية والتعريض بأن من كان متكلماً في مسلم فليتكلم بثناء أو ليدَعْ ، فسمَّى ذكرهم بالشر ثناء تنبيهاً على ذلك . وأما الذي يستعمل في الخير والشر فهو النثاء بتقديم النون وهو في الشر أكثر كما قيل .
وأما المدح فقد اختلف فيه فذهب الجمهور إلى أن المدح أعم من الحمد فإنه يكون على الوصف الاختياري وغيره . وقال صاحب «الكشاف» الحمد والمدح أخوان فقيل أراد أخوان في الاشتقاق الكبير نحوجَبذ وجَذب ، وإن ذلك اصطلاح له في «الكشاف» في معنى أُخوة اللفظين لئلا يلزم من ظاهر كلامه أن المدح يطلق على الثناء على الجميل الاختياري ، لكن هذا فهم غير مستقيم والذي عليه المحققون من شراح «الكشاف» أنه أراد من الأخوة هنا الترادف لأنه ظاهر كلامه؛ ولأنه صريح قوله في «الفائق» : «الحمد هو المدح والوصف بالجميل» ولأنه ذكر الذم نقيضاً للحمد إذ قال في «الكشاف» : «والحمد نقيضه الذم» مع شيوع كون الذم نقيضاً للمدح ، وعُرفُ علماء اللغة أن يريدوا من النقيض المقابل لا ما يساوي النقيض حتى يجاب بأنه أراد من النقيض ما لا يجامع المعنى والذم لا يجامع الحمد وإن لم يكن معناه رفع معنى الحمد بل رفع معنى المدح إلا أن نفي الأعم وهو المدح يستلزم نفي الأخص وهو الحمد لأن هذا لا يقصده علماء اللغة ، يعني وإن اغتفر مثله في استعمال العرب كقول زهير :
ومن يجعل المَعْروف في غير أهله ... يَكُنْ حمده ذمّاً عليه ويندم
لأن كلام العلماء مبني على الضبط والتدقيق .
ثم اختلف في مراد صاحب «الكشاف» من ترادفهما هل هما مترادفان في تقييدهما بالثناء على الجميل الاختياري؟ أو مترادفان في عدم التقييد بالاختياري ، وعلى الأول حمله السيد الشريف وهو ظاهر كلام سعد الدين . واستدل السيد بأنه صرح بذلك في قوله تعالى : { ولكن الله حبب إليكم الإيمان } [ الحجرات : 7 ] إذ قال : «فإن قلت فإن العرب تمدح بالجمال وحسن الوجوه وهو مدح مقبول عند الناس ، قلت الذي سوغ ذلك أنهم رأوا حسن الرواء ووسامة المنظر في الغالب يسفر عن مخبر مرضضٍ وأخلاق محمودة على أن من محققة الثقات وعلماء المعاني من دفع صحة ذلك وخطأ المادح به وقصر المدح على النعت بأمهات الخير وهي كالفصاحة والشجاعة والعدل والعفة وما يتشعب عنها» ا ه .
وعلى المحمل الثاني وهو أن يكون قُصد من الترادف إلغاء قيد الاختياري في كليهما حمله المحقق عبد الحكيم السلكوتي في «حواشي التفسير» فرضاً أو نقلاً لا ترجيحاً بناء على أنه ظاهر كلامه في «الكشاف» و«الفائق» إذ ألغى قيد الاختياري في تفسير المدح بالثناء على الجميل وجعلهما مع ذلك مترادفين .
وبهذا يندفع الإشكال عن حمدنا الله تعالى على صفاته الذاتية كالعلم والقدرة دون صفات الأفعال وإن كان اندفاعه على اختيار الجمهور أيضاً ظاهراً؛ فإن ما ورد عليهم من أن مذهبهم يستلزم أن لا يحمد الله تعالى على صفاته لأنها ذاتية فلا توصف بالاختيار إذ الاختيار يستلزم إمكان الاتصاف ، وقد أجابوا عنه إما بأن تلك الصفات العلية نزلت منزلة الاختيارية لاستقلال موصوفها ، وإما بأن ترتب الآثار الاختيارية عليها يجعلها كالاختيارية ، وإما بأن المراد بالاختيارية أن يكون المحمود فاعلاً بالاختيار وإن لم يكن المحمود عليه اختيارياً .
وعندي أن الجواب أن نقول إن شرط الاختياري في حقيقة الحمد عند مثبته لإخراج الصفات غير الاختيارية لأن غير الاختياري فينا ليس من صفات الكمال إذ لا تترتب عليها الآثار الموجبة للحمد ، فكان شرط الاختيار في حمدنا زيادة في تحقق كمال المحمود ، أما عدم الاختيار المختص بالصفات الذاتية الإلهية فإنه ليس عبارة عن نقص في صفاته ولكنه كمال نشأ من وجوب الصفة للذات لقدم الصفة فعدم الاختيار في صفات الله تعالى زيادةٌ في الكمال لأن أمثال تلك الصفات فينا لا تكون واجبة للذات ملازمة لها فكان عدم الاختيار في صفات الله تعالى دليلاً على زيادة الكمال وفينا دليلاً على النقص ، وما كان نقصاً فينا باعتبار مّا قد يكون كمالاً لله تعالى باعتبار آخر مثل عدم الولد ، فلا حاجة إلى الأجوبة المبنية على التنزيل إما باعتبار الصفة أو باعتبار الموصوف ، على أن توجيه الثناء إلى الله تعالى بمادة ( حمد ) هو أقصى ما تسمى به اللغة الموضوعة لأداء المعاني المتعارفة لدى أهل تلك اللغة ، فلما طرأت عليهم المدارك المتعلقة بالحقائق العالية عبر لهم عنها بأقصى ما يقربها من كلامهم .
( الحمد ) مرفوع بالابتداء في جميع القراءات المروية وقوله ( لله ) خبره فلام ( لله ) متعلق بالكون والاستقرار العام كسائر المجرورات المخبر بها وهو هنا من المصادر التي أتت بدلاً عن أفعالها في معنى الإخبار ، فأصله النصب على المفعولية المطلقة على أنه بدل من فعله وتقدير الكلام نحمد حمداً لله ، فلذلك التزموا حذف أفعالها معها . قال سيبويه هذا باب ما ينصب من المصادر على إضمار الفعل غير المستعمل إظهاره وذلك قولك سقياً ورعياً وخيبةً وبؤساً ، والحذرَ بدلاً عن احذر فلا يحتاج إلى متعلق وأما قولهم سقياً لك نحو :
سقْياً وَرعْياً لذاك العاتببِ الزَّارِي ... فإنما هو ليبينوا المعنيَّ بالدعاء . ثم قال بعد أبواب : هذا باب ما ينتصب على إضمار الفعل المتروك إظهاره من المصادر في غير الدعاء ، من ذلك قولك حمداً وشُكراً لا كفراً وعَجباً ، فإنما ينتصب هذا على إضمار الفعل كأنك قلت أحمد الله حمداً وإنما اختُزِل الفعل هاهنا لأنهم جعلوا هذا بدلاً من اللفظ بالفعل كما فعلوا ذلك في باب الدعاء وقد جاء بعض هذا رفعاً يُبتدأ به ثم يبنى عليه ( أي يخبر عنه ) ثم قال بعد باب آخر : هذا باب يختار فيه أن تكون المصادر مبتدأة مبنياً عليها ما بعدَها ، وذلك قولك { الحمد لله } ، والعجبُ لك ، والويل له ، وإنما استحبوا الرفع فيه لأنه صار معرفة وهو خبر ( أي غير إنشاء ) فقوي في الابتداء ( أي إنه لما كان خبراً لا دعاء وكان معرفة بأَلْ تهيأت فيه أسباب الابتداء لأن كونه في معنى الإخبار يهّيىء جانب المعنى للخبرية وكونه معرفة يصحح أن يكون مبتدأ ) بمنزلة عبد الله ، والرجل ، والذي تَعْلم ( من المعارف ) لأن الابتداء إنما هو خبر وأحسنه إذا اجتمع معرفة ونكرة أن تبدأ بالأعرف وهو أصل الكلام . وليس كل حرف ( أي تركيب ) يصنع به ذاك ، كما أنه ليس كل حرف ( أي كلمة من هذه المصادر ) يدخل فيه الألف واللام ، فلو قلت السقي لك والرعي لك لم يجز ( يعني يقتصر فيه على السماع ) . واعلم أن { الحمدُ لله } وإن ابتدأْتَه ففيه معنى المنصوب وهو بدل من اللفظ بقولك أحمد الله . وسمعنا ناساً من العرب كثيراً يقولون : الترابَ لك والعجبَ لك ، فتفسير نصب هذا كتفسيره حيث كان نكرة ، كأنك قلت حمداً وعجباً ، ثم جئت بِلَك لتبين من تعني ولم تجعله مبنياً عليه فتبتدئه» . انتهى كلام سيبويه باختصار . وإنما جلبناه هنا لأنه أفصح كلام عن أطوار هذا المصدر في كلام العرب واستعمالهم ، وهو الذي أشار له صاحب «الكشاف» بقوله : «وأصله النصب بإضمار فعله على أنه من المصادر التي ينصبها العرب بأفعال مضمرة في معنى الإخبار كقولهم شكراً ، وكفراً ، وعجباً ، ينزلونها منزلة أفعالها ويسدون بها مسدها ، ولذلك لا يستعملونها معها والعدول بها عن النصب إلى الرفع على الابتداء للدلالة على ثبات المعنى» الخ .
ومن شأن بلغاء العرب أنهم لا يعدلون عن الأصل إلا وهم يرمون إلى غرض عدلوا لأجله ، والعدول عن النصب هنا إلى الرفع ليتأتى لهم الدلالةُ على الدوام والثبات بمصير الجملة اسمية؛ والدلالةُ على العموم المستفاد في المقام من أل الجنسية ، والدلالةُ على الاهتمام المستفاد من التقديم . وليس واحد من هذه الثلاثة بممكن الاستفادة لو بقي المصدر منصوباً إذ النصب يدل على الفعل المقدر والمقدر كالملفوظ فلا تكون الجملة اسمية إذ الاسم فيها نائب عن الفعل فهو ينادي على تقدير الفعل فلا يحصل الدوام .
ولأنه لا يصح معه اعتبار التقديم فلا يحصل الاهتمام . ولأنه وإن صح اجتماع الألف واللام مع النصب كما قرىء بذلك وهي لغة تميم كما قال سيبويه فالتعريف حينئذٍ لا يكون دالاً على عموم المحامد لأنه إن قدر الفعل أَحمدُ بهمزة المتكلم فلا يعم إلا تحميدات المتكلم دون تحميدات جميع الناس ، وإن قدر الفعل نحمد وأريد بالنون جميع المؤمنين بقرينة { اهدنا الصراط المستقيم } وبقرينة { إياك نعبد } فإنما يعم محامد المؤمنين أو محامد الموحدين كلهم ، كيف وقد حمد أهل الكتاب الله تعالى وحمده العرب في الجاهلية . قال أمية بن أبي الصلت :
الحمد لله حمداً لا انقطاعَ له ... فليس إحسانُه عنا بمقطوع
أما إذا صار الحمد غير جار على فعل فإنه يصير الإخبار عن جنس الحمد بأنه ثابت لله فيعم كل حمد كما سيأتي . فهذا معنى ما نُقل عن سيبويه أنه قال : إن الذي يَرْفع الحمدَ يُخبرُ أنَّ الحمدَ منه ومن جميع الخلق والذي ينصب يُخبرُ أن الحمد منه وحدَه لله تعالى .
واعلم أن قراءة النصب وإن كانت شاذة إلا أنها مجدية هنا لأنها دلت على اعتبار عربي في تطور هذا التركيب المشهور ، وأَن بعض العرب نطقوا به في حال التعريف ولم ينسوا أصل المفعولية المطلقة . فقد بان أن قوله { الحمد لله } أبلغ من { الحمدَ لله } بالنصب ، وأنَّ { الحمدَ لله } بالنصب والتعريف أبلغ من حمداً لله بالتنكير . وإنما كان { الحمد لله } بالرفع أبلغ لأنه دال على الدوام والثبات . قال في «الكشاف» : «إن العدول عن النصب إلى الرفع للدلالة على ثبات المعنى واستقراره ومنه قوله تعالى : { قالوا سلاماً قال سلام } [ الذاريات : 25 ] رفع السلام الثاني للدلالة على أن إبراهيم عليه السلام حيّاهم بتحيّة أحسنَ من تحيّتهم» ا ه .
فإن قلت وقع الاهتمام بالحمد مع أن ذكر اسم الله تعالى أهم فكان الشأن تقديم اسم الله تعالى وإبقاء الحمد غير مهتم به حتى لا يلجأ إلى تغييره عن النصب إلى الرفع لأجل هذا الاهتمام ، قلت قدم الحمد لأن المقام هنا مقام الحمد إذ هو ابتداء أَوْلى النعم بالحمد وهي نعمة تنزيل القرآن الذي فيه نجاح الدارين ، فتلك المنة من أكبر ما يحمد الله عليه من جلائل صفات الكمال لا سيما وقد اشتمل القرآن على كمال المعنى واللفظ والغاية فكان خطوره عند ابتداء سماع إنزاله وابتداء تلاوته مذكراً بما لمنزِّله تعالى من الصفات الجميلة ، وذلك يذكِّر بوجوب حمده وأن لا يُغفل عنه فكان المقام مقام الحمد لا محالة ، فلذلك قدم وأزيل عنه ما يؤذن بتأخره لمنافاته الاهتمام ، ثم إن ذلك الاهتمام تأتَّى به اعتبار الاهتمام بتقديمه أيضاً على ذكر الله تعالى اعتداداً بأهمية الحمد العارضةِ في المقام وإن ذكر الله أهمَّ في نفسه لأن الأهمية العارضة تقدم على الأهمية الأصلية لأنها أمر يقتضيه المقام والحال والآخر يقتضيه الواقع ، والبلاغة هي المطابقة لمقتضى الحال والمقاممِ ، ولأن ما كان الاهتمام به لعارض هو المحتاج للتنبيه على عارضه إذ قد يخفى ، بخلاف الأمر المعروف المقرر فلا فائدة في التنبيه عليه بل ولا يفيته التنبيه على غيره .
فإن قلت كيف يصح كون تقديم الحمد وهو مبتدأ مؤذناً بالاهتمام مع أنه الأصل ، وشأن التقديم المفيد للاهتمام هو تقديم ما حقه التأخير؟
قلت لو سلم ذلك فإن معنى تقديمه هو قصد المتكلم للإتيان به مقدماً مع إمكان الإتيان به مؤخراً؛ لأن للبلغاء صيغتين متعارفتين في حمد الله تعالى إحداهما { الحمدُ الله } كما في الفاتحة والأخرى { لله } كما في سورة الجاثية ( 36 ) .
وأما قصد العموم فسيتضح عند بيان معنى التعريف فيه .
والتعريف فيه بالألف واللام تعريف الجنس لأن المصدر هنا في الأصل عوض عن الفعل فلا جرم أن يكون الدال على الفعل والساد مسده دالاً على الجنس فإذا دخل عليه اللام فهو لتعريف مدلوله لأن اللام تدل على التعريف للمسمى فإذا كان المسمى جنساً فاللام تدل على تعريفه . ومعنى تعريف الجنس أن هذا الجنس هو معروف عند السامع فإذا قلت الحمد لله أو العجب لك فكأنك تريد أن هذا الجنس معروف لديك ولدى مخاطبك لا يلتبس بغيره كما أنك إذا قلت الرجل وأردت معيناً في تعريف العهد النحوي فإنك تريد أن هذا الواحد من الناس معروف بينك وبين مخاطبك فهو في المعنى كالنكرة من حيث إن تعريف الجنس ليس معه كبير معنى إذ تعين الجنس من بين بقية الأجناس حاصل بذكر لفظه الدال عليه لغة وهو كاف في عدم الدلالة على غيره ، إذ ليس غيره من الأجناس بمشارك له في اللفظ ولا متوهم دخوله معه في ذهن المخاطب بخلاف تعريف العهد الخارجي فإنه يدل على واحد معين بينك وبين مخاطبك من بين بقية أفراد الجنس التي يشملها اللفظ ، فلا يفيد هذا التعريف أعني تعريف الجنس إلا توكيد اللفظ وتقريره وإيضاحه للسامع؛ لأنك لما جعلته معهوداً فقد دللت على أنه واضح ظاهر ، وهذا يقتضي الاعتناء بالجنس وتقريبه من المعروف المشهور ، وهذا معنى قول صاحب «الكشاف» : «وهو نحو التعريف في أُرسلَها العِراكَ ومعناه الإشارة إلى ما يعرفه كل أحد من أن الحمد ما هو والعراك ما هو من بين أجناس الأفعال» وهو مأخوذ من كلام سيبويه .
وليست لام التعريف هنا للاستغراق لما علمت أنها لام الجنس ولذلك قال صاحب «الكشاف» : «والاستغراق الذي توهمه كثير من الناس وهم منهم» غير أن معنى الاستغراق حاصل هنا بالمثال لأن الحكم باختصاص جنس الحمد به تعالى لوجود لام تعريف الجنس في قوله : { الحمد } ولام الاختصاص في قوله : { لله } يستلزم انحصار أفراد الحمد في التعلق باسم الله تعالى لأنه إذا اختص الجنسُ اختصت الأفراد؛ إذ لو تحقق فرد من أفراد الحمد لغير الله تعالى لتحقق الجنس في ضمنه فلا يتم معنى اختصاص الجنس المستفاد من لام الاختصاص الداخلة على اسم الجلالة ، ثم هذا الاختصاص اختصاص ادعائي فهو بمنزلة القصر الادعائي للمبالغة .
واللام في قوله تعالى : { للَّه } يجوز أن يكون للاختصاص على أنه اختصاص ادعائي كما مر ، ويجوز أن يكون لام التقوية قوت تعلق العامل بالمفعول لضعف العامل بالفرعية وزاده التعريف باللام ضعفاً لأنه أبعدَ شبهه بالأفعال ، ولا يفوت معنى الاختصاص لأنه قد استفيد من تعريف الجزأين .
هذا وقد اختلف في أن جملة ( الحمد ) هل هي خبر أو إنشاء؟ فإن لذلك مزيد تعلق بالتفسير لرجوعه إلى المعنى بقول القائل ( الحمد لله ) .
وجماع القول في ذلك أن الإنشاء قد يحصل بنقل المركب من الخبرية إلى الإنشاء وذلك كصيغ العقود مثل بعت واشتريت ، وكذلك أفعال المدح والذم والرجاء كعسى ونعم وبئس وهذا الأخير قسمان منه ما استعمل في الإنشاء مع بقاء استعماله في الخبر ومنه ما خص بالإنشاء فالأول كصيغ العقود فإنها تستعمل أخباراً تقول بعت الدار لزيد التي أخبرتك بأنه ساومني إياها فهذا خبر ، وتقول بعت الدار لزيد أو بعتك الدار بكذا فهذا إنشاء بقرينة أنه جاء للإشهاد أو بقرينة إسناد الخبر للمخاطب مع أن المخبر عنه حال من أحواله ، والثاني كنعم وعسى .
فإذا تقرر هذا فقد اختلف العلماء في أن جملة { الحمد لله } هل هي إخبار عن ثبوت { الحمد لله } أو هي إنشاء ثناء عليه إلى مذهبين ، فذهب فريق إلى أنها خبر ، وهؤلاء فريقان منهم من زعم أنها خبر باق على الخبرية ولا إشعار فيه بالإنشائية ، وأورد عليه أن المتكلم بها لا يكون حامداً لله تعالى مع أن القصد أنه يثني ويحْمد الله تعالى ، وأجيب بأن الخبر بثبوت الحمد له تعالى اعتراف بأنه موصوف بالجميل إذ الحمد هو عين الوصف بالجميل ، ويكفي أن يحصل هذا الوصف من الناس وينقله المتكلم . ويمكن أن يجاب أيضاً بأن المخبر داخل في عموم خبره عند الجمهور من أهل أصول الفقه . وأجيب أيضاً بأن كون المتكلم حامداً قد يحصل بالالتزام من الخبر يريدون أنه لازم عرفي لأن شأن الأمر الذي تضافر عليه الناس قديماً أن يقتدي بهم فيه غيرهم من كل من علمه ، فإخبار المتكلم بأنه علم ذلك يدل عرفاً على أنه مقتد بهم في ذلك هذا وجه اللزوم ، وقد خفي على كثير أي فيكون مثل حصول لازم الفائدة من الخبر المقررة في علم المعاني ، مثل قولك سهرتَ الليلة وأنت تريد أنك علمتَ بسهره ، فلا يلزم أن يكون ذلك إنشاء لأن التقدير على هذا القول أن المتكلم يخبر عن كونه حامداً كما يخبر عن كون جميع الناس حامدين فهي خبر لا إنشاء والمستفاد منها بطريق اللزوم معنى إخباري أيضاً .
ويرد على هذا التقدير أيضاً أن حمد المتكلم يصير غير مقصود لذاته بل حاصلاً بالتبع مع أن المقام مقام حمد المتكلم لا حمد غيره من الناس ، وأجيب بأن المعنى المطابقي قد يؤتى به لأجل المعنى الالتزامي لأنه وسيلة له ، ونظيره قولهم طويل النجاد والمرادُ طول القامة فإن طول النجاد أتى به ليدل على معنى طول القامة .
وذهب فريق ثان إلى أن جملة { الحمد لله } هي خبر لا محالة إلا أنه أريد منه الإنشاء مع اعتبار الخبرية كما يراد من الخبر إنشاء التحسر والتحزن في نحو : { إني وصعتُها أنثى } [ آل عمران : 36 ] وقول جعفر بن عُلْبة الحارثي :
هوايَ مع الركْببِ اليمانين مُصِعدُ ... فيكون المقصد الأصلي هو الإنشاء ولكن العدولَ إلى الإخبار لما يتأتى بواسطة الإخبار من الدلالة على استغراق والاختصاص والدوام والثبات ووجه التلازم بين الإخبار عن حمد الناس وبين إنشاء الحمد واضح مما علمته في وجه التلازم على التقرير الأول ، بل هو هنا أظهر لأن المخبر عن حمد الناس لله تعالى لا جَرَم أنه منشىء ثناء عليه بذلك ، وكونُ المعنى الالتزامي في الكناية هو المقصود دون المعنى المطابقي أظهر منه في اعتبار الخبرية المحضة لما عهد في الكناية من أنها لفظ أريد به لازم معناه مع جواز إرادة الأصل معه ، فدل على أن المعنى الأصلي إما غير مراد أو مراد تبعاً لأن مع تدخل على المتبوع .
المذهب الثاني أن جملة { الحمد لله } إنشاء محض لا إشعار له بالخبرية ، على أنها من الصيغ التي نقلتْها العرب من الإخبار إلى إنشاء الثناء كما نقلتْ صيغَ العقود وأفعالَ المدح والذم أي نقلاً مع عدم إماتة المعنى الخبري في الاستعمال ، فإنك قد تقول الحمد لله جواباً لمن قال لمن الحمدُ أو من أَحمد ولكنَّ تعهد المعنى الأصلي ضعيف فيحتاج إلى القرينة . والحق الذي لا محيد عنه أن الحمد لله خبر مستعمل في الإنشاء فالقصد هو الإنشائية لا محالة ، وعدل إلى الخبرية لتحمل جملة الحمد من الخصوصيات ما يناسب جلالة المحمود بها من الدلالة على الدوام والثبات والاستغراق والاختصاص والاهتمام ، وشيءٌ من ذلك لا يمكن حصوله بصيغةِ إنشاءٍ نحو حمداً لله أو أحمد الله حمداً ومما يدل على اعتبار العرب إياها إنشاء لا خبراً قول ذي الرمة :
ولما جَرَتْ في الجزل جرياً كأنَّه ... سنا الفجر أَحْدَثْنا لخالقها شكرا
فعبر عن ذكر لفظ الحمد أو الشكر بالإحداث ، والإحداث يرادف الإنشاء لغة فقوله أحدثنا خبر حكى به ما عبر عنه بالإحداث وهو حَمْده الواقع حين التهابها في الحطب .
والله هو اسم الذاتتِ الواجببِ الوجود المستحق لجميع المحامد . وأصل هذا الاسم الإله بالتعريف وهو تعريف إلاه الذي هو اسم جنس للمعبود مشتق من أَلَهَ بفتح اللام بمعنى عبد ، أو من ألِه بكسر اللام بمعنى تحير أو سكن أو فزع أو ولع مما يرجع إلى معنى هو ملزوم للخضوع والتعظيم فهو فِعال بكسر الفاء بمعنى مفعول مثل كتاب ، أطلقه العرب على كل معبود من أصنامهم لأنهم يرونها حقيقةً بالعبادة ولذلك جمعوه على آلهة بوزن أَفعلة مع تخفيف الهمزة الثانية مَدَّةً ، وأحسب أن اسمه تعالى تقرر في لغة العرب قبل دخول الإشراك فيهم فكان أصل وضعه دالاً على انفراده بالألوهية إذ لا إله غيره فلذلك صار علماً عليه ، وليس ذلك من قبيل العلمَ بالغلبة بل من قبيل العلم بالانحصار مثل الشمس والقمر فلا بدع في اجتماع كونه اسمَ جنس وكونه علماً ، ولذلك أرادوا به المعبود بحق رداً على أهل الشرك قبل دخول الشرك في العرب وإننا لم نقف على أن العرب أطلقوا الإله معرَّفاً باللام مفرداً على أحد أصنامهم وإنما يضيفون فيقولون إلاه بني فلان والأكثر أن يقولوا رَب بني فلان أو يجمعون كما قالوا لعبد المطلب أَرْضضِ الآلهةَ ، وفي حديث فتح مكة : «وجد رسول الله البيتَ فيه الآلهة» . فلما اختص الإله بالإله الواحد واجببِ الوجود اشتقوا له من اسم الجنس علماً زيادة في الدلالة على أنه الحقيق بهذا الاسم ليصير الاسم خاصاً به غير جائز الإطلاق على غيره سَنن الأعلام الشخصية ، وأَراهم أبدعوا وأَعجبوا إذ جعلوا علم ذاته تعالى مشتقاً من اسم الجنس المؤذن بمفهوم الألوهية تنبيهاً على أن ذاته تعالى لا تستحضر عند واضع العَلَم وهو الناطق الأول بهذا الاسم من أهل اللسان إلا بوصف الألوهية وتنبيهاً على أنه تعالى أَوْلى من يُؤَلَّه ويُعبد لأنه خالق الجميع فحذفوا الهمزة من الإله لكثرة استعمال هذا اللفظ عند الدلالة عليه تعالى كما حذفوا همزة الأناس فقالوا النَّاس؛ ولذلك أظهروها في بعض الكلام . قال البَعِيث بن حُرَيث .
معَاذَ الإله أَنْ تكون كظبيةٍ ... ولا دُميةٍ ولا عقيلةِ رَبْرَب
كما أظهروا همزة الأناس في قول عَبيد بن الأبرص الأسدي :
إن المنَايَا ليطَّلِعْ ... نَ على الأناس الآمِنِينَ
ونُزِّل هذا اللفظ في طوره الثالث منزلة الأعلام الشخصية فتصرفوا فيه هذا التصرف لينتقلوا به إلى طَور جديد فيجعلُوه مثل علم جديد ، وهذه الطريقة مسلوكة في بعض الأعلام . قال أبو الفتح بن جني في شرح قول تأبط شرا في النشيد الثالث عشر من «الحماسة» :
إِني لمُهْدٍ من ثَنائي فقَاصِدٌ ... به لابن عم الصدق شُمْسسِ بن مَالك
شُمس بضم الشين وأصله شَمس بفتحها كما قالوا حُجْر وسُلْمَى فيكون مما غُير عن نظائره لأجْل العلمية ا ه .
وفي «الكشاف» في تفسير سورة أبي لهب بعد أن ذكر أن من القراء من قرأ ( أبي لهْبٍ ) بسكون الهاء ما نصه وهي من تغيير الأعلام كقولهم شُمْس بن مالك بالضم ا ه . وقال قبله : «ولفُلَيْتَه بن قاسم أمير مكة ابنان أحدهما عبدِ الله بالجر ، والآخر عبدَ الله بالنصب ، وكان بمكة رجل يقال له عبدِ الله لا يعرف إلا هكذا» ا ه . يعني بكسر دال عبد في جميع أحوال إعرابه ، فهو بهذا الإيماء نوع مخصوص من العَلَم ، وهو أنه أقوى من العلم بالغلَبة لأن له لفظاً جديداً بعد اللفظ المغلَّب . وهذه الطريقة في العلمية التي عرضت لاسم الجلالة لا نظير لها في الأعلام فكان اسمه تعالى غيرَ مشابه لأسماء الحوادث كما أن مسمى ذلك الاسممِ غير مماثل لمسميات أسماء الحوادث . وقد دلوا على تناسيهم ما في الألف واللام من التعريف وأنهم جعلوهما جزءاً من الكلمة بتجويزهم ندَاء اسم الجلالة مع إبقاء الألف واللام إذ يقولون يا الله مع أنهم يمنعون نداء مدخول الألف واللام .
وقد احتج صاحب «الكشاف» على كون أصله الإله ببيت البعيث المتقدم ، ولم يقررْ ناظروه وجه احتجاجه به ، وهو احتجاج وجيه لأن مَعَاذ من المصادر التي لم ترد في استعمالهم مضافة لغير اسم الجلالة ، مثل سبحان فأجريت مُجرى أمثال في لزومها لهاته الإضافة ، إذ تقول معاذالله فلما قال الشاعر معاذ الإله وهو من فصحاء اللسان علمنا أنهم يعتبرون الإله أصلاً للفظ الله ، ولذلك لم يكن هذا التصرف تغييراً إلا أنه تصرف في حروف اللفظ الواحد كاختلاففِ وجوه الأداء مع كون اللفظ واحداً ، ألا ترى أنهم احتجوا على أن لاَه مخفف الله بقول ذي الأَصبع العَدْواني :
لاَه ابنُ عمِّكَ لا أُفْضِلْتَ في حَسَبٍ ... عنّى ولا أنتَ ديَّانِي فتَخْزُوني
وبقولهم لاَه أبوكَ لأن هذا مما لزم حالة واحدة ، إذ يقولون لله أبوك ولله ابن عمك ولله أنتَ .
وقد ذُكِرتْ وجوه أخر في أصل اسم الجلالة : منها أن أصله لاَهٌ مصدر لاه يليه ليهاً إذا احتجب سمي به الله تعالى ، ثم أدخلت عليه الألف واللام للمح الأصل كالفضل والمَجد اسمين ، وهذا الوجه ذكر الجوهري عن سيبويه أنه جوزه . ومنها أن أصله وِلاَهٌ بالواو فِعال بمعنى مفعول من وله إذا تحيَّر ، ثم قلبت الواو همزة لاستثقال الكسرة عليها ، كما قلبت في إعاء وإشاح ، أي وِعاء ووشاح ، ثم عرف بالألف واللام وحذفت الهمزة . ومنها أن أصله ( لاَها ) بالسريانية علم له تعالى فعرب بحذف الألف وإدخال اللام عليه . ومنها أنه علم وضع لاسم الجلالة بالقصد الأوَّلِي من غير أخذ من أَلِهَ وتصييرِه الإله فتكون مقاربته في الصورة لقولنا الإله مقاربةً اتفاقيةً غير مقصودة ، وقد قال بهذا جمع منهم الزجاج ونسب إلى الخليل وسيبويه ، ووجَّهه بعض العلماء بأن العرب لم تهمل شيئاً حتى وضعت له لفظاً فكيف يتأتى منهم إهمال اسم له تعالى لتجري عليه صفاته .
وقد التُزم في لفظ الجلالة تفخيم لامه إذا لم ينكسر ما قبل لفظه وحاول بعض الكاتبين توجيه ذلك بما لا يسلَم من المنع ، ولذلك أبَى صاحب «الكشاف» التعريج عليه فقال : «وعلى ذلك ( أي التفخيم ) العرب كلهم ، وإطباقهم عليه دليل أنهم ورثوه كابراً عن كابر» .
وإنما لم يقدم المسند المجرور وهو متضمن لاسم الجلالة على المسند إليه فيقال لله الحمد ، لأن المسند إليه حَمْد على تنزيل القرآن والتشرف بالإسلام وهما منة من الله تعالى فحمده عليهما عند ابتداء تلاوة الكتاب الذي به صلاح الناس في الدارين فكان المقام للاهتمام به اعتباراً لأهمية الحمد العارضة ، وإن كان ذكر الله أهم أصالة فإن الأهمية العارضة تقدم على الأهمية الأصلية لاقتضاء المقام والحاللِ ، والبلاغة هي المطالبة لمقتضى الحال ، على أن الحمد لما تعلق باسم الله تعالى كان في الاهتمام به اهتمام بشؤون الله تعالى .
ومن أعجب الآراء ما ذكره صاحب «المنهل الأصفى في شرح الشفاء» التلمساني عن جمع من العلماء القول بأن اسم الجلالة يمسك عن الكلام في معناه نعظيماً وإجلالاً ولتوقف الكلام فيه على إذن الشارع .
{ رَبِّ العالمين } .
وصف لاسم الجلالة فإنه بعد أن أسند الحمد لاسم ذاته تعالى تنبيهاً على الاستحقاق الذاتي ، عقبَ بالوصف وهو الرب ليكون الحمد متعلقاً به أيضاً لأن وصف المتعلَّق متعلَّق أيضاً ، فلذلك لم يقل الحمد لرب العالمين كما قال : { يوم يقوم الناس لرب العالمين } [ المطففين : 6 ] ليؤذن باستحقاقه الوصفي أيضاً للحمد كما استحقه بذاته .
وقد أجرى عليه أربعة أوصاف هي : رب العالمين ، الرحمن ، الرحيم ، ملك يوم الدين ، للإيذان بالاستحقاق الوصفي فإن ذكر هذه الأسماء المشعرة بالصفات يؤذن بقصد ملاحظة معانيها الأصلية ، وهذا من المستفادات من الكلام بطريق الاستتباع لأنه لما كان في ذكر الوصف غنية عن ذكر الموصوف لا سيما إذا كان الوصف منزلاً منزلة الاسم كأوصافه تعالى وكان في ذكر لفظ الموصوف أيضاً غُنية في التنبيه على استحقاق الحمد المقصود من الجملة عَلمنا أن المتكلم ما جمع بينهما إلا وهو يشير إلى أن كِلاَ مَدلُولَيْ الموصوف والصفة جدير بتعلق الحمد له مع ما في ذكر أوصافه المختصة به من التذكير بما يُميزه عن الآلاهة المزعومة عند الأمم من الأصنام والأوثان والعناصر كما سيأتي عند قوله تعالى : { ملك يوم الدين } .
والرب إما مصدر وإما صفة مشبهة على وزن فَعْل مِنْ رَبَّه يَرُبُّه بمعنى رباه وهو رَب بمعنى مُرَبَ وسائس . والتربية تبليغ الشيء إلى كماله تدريجاً ، ويجوز أن يكون من ربه بمعنى ملَكَه ، فإن كان مصدراً على الوجهين فالوصف به للمبالغة ، وهو ظاهر ، وإن كان صفة مشبهة على الوجهين فهي واردة على القليل في أوزان الصفة المشبهة فإنها لا تكون على فَعْل من فعَل يفعُل إلا قليلاً ، من ذلك قولهم نمّ الحديث ينُمُّه فهو نَمٌّ للحديث .
والأظهر أنه مشتق من ربَّه بمعنى رباه وساسه ، لا من ربه بمعنى ملكه لأن الأول الأنسب بالمقام هنا إذ المراد أنه مدبر الخلائق وسائس أمورها ومبلغها غاية كمالها ، ولأنه لو حمل على معنى المالك لكان قوله تعالى بعد ذلك { ملك يوم الدين } كالتأكيد والتأكيد خلاف الأصل ولا داعي إِليه هنا ، إلا أن يجاب بأن العالمين لا يشمل إلا عوالم الدنيا ، فيحتاج إلى بيان أنه ملك الآخرة كما أنه ملك الدنيا ، وإن كان الأكثر في كلام العرب ورود الرب بمعنى الملك والسيد وذلك الذي دعا صاحب «الكشاف» إلى الاقتصار على معنى السيد والملك وجوز فيه وجهي المصدرية والصفة ، إلا أن قرينة المقام قد تصرف عن حمل اللفظ على أكثر موارده إلى حمله على ما دونه فإن كلا الاستعمالين شهير حقيقي أو مجازي والتبادر العارض من المقام المخصوص لا يقضي بتبادر استعماله في ذلك المعنى في جميع المواقع كما لا يخفي . والعرب لم تكن تخص لفظ الرب به تعالى لا مطلقاً ولا مقيداً لما علمت من وزنه واشتقاقه . قال الحرث بن حلزة :
وهُوَ الرب والشهيدُ على يو ... م الحِيارَيْن والبلاء بلاء
يعني عَمْرو بن هند . وقال النابغة في النعمان بن الحارث :
تخُبُّ إلى النعمان حتى تناله ... فِدًى لك من ربَ طرِيفي وتالدي
وقال في النعمان بن المنذر حين مرض :
ورَبٌّ عليه الله أحسن صنعه ... وكان له على البرية ناصرا
وقال صاحب «الكشاف» ومن تابعه : إنه لم يطلق على غيره تعالى إلا مقيداً أو لم يأتوا على ذلك بسند وقد رأيتَ أن الاستعمال بخلافه ، أما إطلاقه على كل من آلهتهم فلا مرية فيه كما قال غاوي بن ظالم أو عباس بن مرداس :
أَرَبٌّ يبولُ الثُّعْلُبَانُ برأْسِه ... لقد هان من بالت عليه الثعالبُ
وسموا العزى الرَّبة . وجمْعه على أرباب أدل دليل على إطلاقه على متعدد فكيف تصح دعوى تخصيص إطلاقه عندهم بالله تعالى؟ وأما إطلاقه مضافاً أو متعلقاً بخاص فظاهر وروده بكثرة نحو رب الدار ورب الفرس ورب بني فلان .
وقد ورد الإطلاق في الإسلام أيضاً حين حكى عن يوسف عليه السلام قوله : { إنه ربي أحسن مثواي } [ يوسف : 23 ] إذا كان الضمير راجعاً إلى العزيز وكذا قوله : { أأرباب متفرقون خير } [ يوسف : 39 ] فهذا إطلاق للرب مضافاً وغير مضاف على غير الله تعالى في الإسلام لأن اللفظ عربي أطلق في الإسلام ، وليس يوسفُ أطلَقَ هذا اللفظ بل أطلق مرادفه فلو لم يصح التعبير بهذا اللفظ عن المعنى الذي عبر به يوسف لكان في غيره من ألفاظ العربية مَعْدَل ، إنما ورد في الحديث النهي عن أن يقول أحد لسيده ربي وليقل سيدي ، وهو نهي كراهة للتأديب ولذلك خص النهي بما إذا كان المضاف إليه ممن يعبد عرفاً كأسماء الناس لدفع تهمة الإشراك وقطع دابره وجوزوا أن يقول رب الدابة ورب الدار ، وأما بالإطلاق فالكراهة أشد فلا يقل أحد للملك ونحوه هذا رب .
و ( العالمين ) جمع عالم قالوا ولم يجمع فاعَلٌ هذا الجمع إلا في لفظين عالَم وياسم ، اسم للزهر المعروف بالياسمين ، قيل جمعوه على يَاسَمُون وياسَمِين قال الأعشى :
وقابَلَنَا الجُلُّ والياسم ... ونَ والمُسْمِعات وقَصَّابها
والعالم الجنس من أجناس الموجودات ، وقد بنته العرب على وزن فاعل بفتح العين مشتقاً من العِلْم أو من العلامة لأن كل جنس له تميز عن غيره فهو له علامة ، أو هو سببُ العلم به فلا يختلط بغيره . وهذا البناء مختص بالدلالة على الآلة غالباً كخاتم وقالب وطابع فجعلوا العوالم لكونها كالآلة للعلم بالصانع ، أو العلم بالحقائق . ولقد أبدع العرب في هذه اللطيفة إذ بنوا اسم جنس الحوادث على وزن فاعل لهذه النكتة ، ولقد أبدعوا إذ جمعوه جمع العقلاء مع أن منه ما ليس بعاقل تغليباً للعاقل .
وقد قال التفتزاني في «شرح الكشاف» : «العالم اسم لذوي العلم ولكل جنس يعلم به الخالق ، يقال عالم الملك ، عالم الإنسان ، عالم النبات يريد أنه لا يطلق بالإفراد إلا مضافاً لنوع يخصصه يقال عالم الإنس عالم الحيوان ، عالم النبات وليس اسماً لمجموع ما سواه تعالى بحيث لا يكون له إجراء فيمتنع جمعه» وهذا هو تحقيق اللغة فإنه لا يوجد في كلام العرب إطلاق عالم على مجموع ما سوى الله تعالى ، وإنما أطلقه على هذا علماء الكلام في قولهم العالم حادث فهو من المصطلحات .
والتعرف فيه للاستغراق بقرينة المقام الخطابي فإنه إذا لم يكن عهد خارجي ولم يكن معنى للحمل على الحقيقة ولا على المعهود الذهني تمحض التعريف للاستغراق لجميع الأفراد دفعاً للتحكم فاستغراقه استغراق الأجناس الصادق هو عليها لا محالة وهو معنى قول صاحب «الكشاف» : «ليشمل كل جنس مما سُمِّي به» إلا أن استغراق الأجناس يستلزم استغراق أفرادها استلزاماً واضحاً إذ الأجناس لا تقصد لذاتها لا سيما في مقام الحكم بالمربوبية عليها فإنه لا معنى لمربوبية الحقائق .
وإنما جمع العالم ولم يُؤت به مفرداً لأن الجمع قرينة على استغراق ، لأنه لو أُفرد لتوهم أن المراد من التعريف العهد أو الجنس فكان الجمع تنصيصاً على الاستغراق ، وهذه سنة الجموع مع ( ال ) الاستغراقية على التحقيق ، ولما صارت الجمعية قرينة على الاستغراق بطل منها معنى الجماعات فكان استغراق الجموع مساوياً لاستغراق المفردات أو أشمل منه . وبطل ما شاع عند متابعي السكاكي من قولهم استغراق المفرد أشْمَل كما سنبينه عند قوله تعالى : { وعلم آدم الاسماء كلها } [ البقرة : 31 ] .
- إعراب القرآن : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
«الْحَمْدُ» الثناء على الجميل بالقول. «الرب» المالك والسيد وقد يراد به المصلح والمربي. «الْعالَمِينَ» جمع عالم بفتح اللام ويراد به جميع الكائنات. «يَوْمِ الدِّينِ» يوم الجزاء. «الصِّراطَ» الطريق. وهو يذكر ويؤنث والتذكير أكثر.
«الْحَمْدُ» مبتدأ مرفوع. «لِلَّهِ» لفظ الجلالة مجرور باللام ومتعلقان بخبر محذوف تقديره الحمد واجب.
«رَبِّ» صفة للّه ، أو بدل منه. «الْعالَمِينَ» مضاف إليه مجرور بالياء لأنه ملحق بجمع المذكر السالم.
- English - Sahih International : [All] praise is [due] to Allah Lord of the worlds -
- English - Tafheem -Maududi : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(1:2) Praise *2 be to Allah, the Lord *3 of the entire universe.
- Français - Hamidullah : Louange à Allah Seigneur de l'univers
- Deutsch - Bubenheim & Elyas : Alles Lob gehört Allah dem Herrn der Welten
- Spanish - Cortes : Alabado sea Alá Señor del universo
- Português - El Hayek : Louvado seja Deus Senhor do Universo
- Россию - Кулиев : Хвала Аллаху Господу миров
- Кулиев -ас-Саади : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
Хвала Аллаху, Господу миров,Это - слова восхваления Аллаха за совершенные качества и деяния, которые Он вершит либо по милости, либо по справедливости. Вся хвала принадлежит Ему, и Он достоин ее целиком и полностью. Он один господствует над всеми мирами. К этим мирам относится все сущее, кроме Самого Аллаха. Он сотворил Вселенную, обеспечил ее обитателей средствами к существованию и облагодетельствовал их великими щедротами, лишившись которых они не смогут просуществовать. Все блага, которыми облагодетельствованы творения, являются дарами Всевышнего Господа. Господство Всевышнего Аллаха бывает двух видов: всеобщее и частное. Всеобщее господство выражается в том, что Он создает творения, ниспосылает им пропитание и указывает им верный путь, благодаря чему они могут благоустроить свою жизнь в этом мире. А частное господство проявляется в том, что Аллах воспитывает Своих возлюбленных рабов в духе набожности, помогает им обрести и усовершенствовать веру, защищает их от всего, что может сбить их с прямого пути и отдалить от Него. Сущность этого господства в том, что Аллах облегчает Своим рабам путь ко всякому добру и оберегает их от всякого зла. Возможно, именно поэтому пророки чаще всего в своих молитвах называли Аллаха своим Господом. Да и устремления этих людей были связаны исключительно с частным господством Всевышнего Аллаха. В этом откровении Всевышний нарек себя Господом миров и тем самым подчеркнул, что Он один творит, управляет и одаряет благами. Он богат и не нуждается в Своих творениях. Напротив, все творения нуждаются в Нем и всесторонне зависят от Него.
- Turkish - Diyanet Isleri : Hamd Alemlerin Rabbi Allah'a mahsustur
- Italiano - Piccardo : La lode [appartiene] ad Allah Signore dei mondi
- كوردى - برهان محمد أمين : سوپاس و ستایش ههر شایستهی خوایه و بۆ خوایه که خاوهن و پهروهردگاری ههموو جیهانیان و ههموو بوونهوهره
- اردو - جالندربرى : سب طرح کی تعریف خدا ہی کو سزاوار ہے جو تمام مخلوقات کا پروردگار ہے
- Bosanski - Korkut : Tebe Allaha Gospodara svjetova hvalimo
- Swedish - Bernström : Lov och pris tillkommer Gud världarnas Herre
- Indonesia - Bahasa Indonesia : Segala puji bagi Allah Tuhan semesta alam
- Indonesia - Tafsir Jalalayn : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
(Segala puji bagi Allah) Lafal ayat ini merupakan kalimat berita, dimaksud sebagai ungkapan pujian kepada Allah berikut pengertian yang terkandung di dalamnya, yaitu bahwa Allah Taala adalah yang memiliki semua pujian yang diungkapkan oleh semua hamba-Nya. Atau makna yang dimaksud ialah bahwa Allah Taala itu adalah Zat yang harus mereka puji. Lafal Allah merupakan nama bagi Zat yang berhak untuk disembah. (Tuhan semesta alam) artinya Allah adalah yang memiliki pujian semua makhluk-Nya, yaitu terdiri dari manusia, jin, malaikat, hewan-hewan melata dan lain-lainnya. Masing-masing mereka disebut alam. Oleh karenanya ada alam manusia, alam jin dan lain sebagainya. Lafal 'al-`aalamiin' merupakan bentuk jamak dari lafal '`aalam', yaitu dengan memakai huruf ya dan huruf nun untuk menekankan makhluk berakal/berilmu atas yang lainnya. Kata 'aalam berasal dari kata `alaamah (tanda) mengingat ia adalah tanda bagi adanya yang menciptakannya.
- বাংলা ভাষা - মুহিউদ্দীন খান : যাবতীয় প্রশংসা আল্লাহ তাআলার যিনি সকল সৃষ্টি জগতের পালনকর্তা।
- தமிழ் - ஜான் டிரஸ்ட் : அனைத்துப்புகழும் அகிலங்கள் எல்லாவற்றையும் படைத்து வளர்த்துப் பரிபக்குவப்படுத்தும் நாயனான அல்லாஹ்வுக்கே ஆகும்
- ภาษาไทย - ภาษาไทย : การสรรเสริญทั้งหลายนั้น เป็นสิทธิของอัลลอฮฺผู้เป็นพระเจ้าแห่งสากลโลก
- Uzbek - Мухаммад Содик : Барча мақтов шукрлар оламларнинг тарбиячиси Аллоҳга бўлсин Оламларни яратгани учун ҳам уларнинг тарбиячиси бўлгани учун ҳам улардаги барча жонзотларга ҳаёт ризқи рўз бергани учун ҳам Аллоҳ барча ҳамду саноларга сазовордир
- 中国语文 - Ma Jian : 一切赞颂全归真主,众世界 的主,
- Melayu - Basmeih : Segala puji tertentu bagi Allah Tuhan yang memelihara dan mentadbirkan sekalian alam
- Somali - Abduh : Mahad Eebaa iska leh ee barbaariyaha Caalamka ah Koonka
- Hausa - Gumi : Godiya ta tabbata ga Allah Ubangijin halittu;
- Swahili - Al-Barwani : Sifa njema zote ni za Mwenyezi Mungu Mola Mlezi wa viumbe vyote;
- Shqiptar - Efendi Nahi : Çdo lavdërim i përket Allahut Perëndisë Zotit të Gjithësisë
- فارسى - آیتی : ستايش خدا را كه پروردگار جهانيان است.
- tajeki - Оятӣ : Ситоиш Худоро, ки Парвардигори ҷаҳониён аст.
- Uyghur - محمد صالح : جىمى ھەمدۇسانا ئالەملەرنىڭ پەرۋەردىگارى اﷲ قا خاستۇر
- Malayalam - ശൈഖ് മുഹമ്മദ് കാരകുന്ന് : സ്തുതിയൊക്കെയും അല്ലാഹുവിന്നാണ്. അവന് മുഴുലോകരുടെയും പരിപാലകന്.
- عربى - التفسير الميسر : الحمد لله رب العالمين الثناء على الله بصفاته التي كلها اوصاف كمال وبنعمه الظاهره والباطنه الدينيه والدنيويه وفي ضمنه امر لعباده ان يحمدوه فهو المستحق له وحده وهو سبحانه المنشئ للخلق القائم بامورهم المربي لجميع خلقه بنعمه ولاوليائه بالايمان والعمل الصالح
*2). As we have already explained, the character of this surah is that of a prayer. The prayer begins with praise of the One to whom our prayer is addressed. This indicates that whenever one prays one ought to pray in a dignified manner. It does not become a cultivated person to blurt out his petition. Refinement demands that our requests should be preceded by a wholehearted acknowledgement of the unique position, infinite benevolence and unmatched excellence of the One to Whom we pray. Whenever we praise someone, we do so for two reasons. First, because excellence calls for praise, irrespective of whether that excellence has any direct relevance to us or not. Second, we praise one who, we consider to be our benefactor; when this is the case our praise arises from a deep feeling of gratitude. God is worthy of praise on both counts. It is incumbent on us to praise Him not only in recognition of His infinite excellence but also because of our feeling of gratitude to Him, arising from our awareness of the blessings He has lavished upon us. It is important to note that what is said here is not merely that praise be to God, but that all praise be to God alone. Whenever there is any beauty, any excellence, any perfection-in whatever thing or in whatever shape it may manifest itself- its ultimate source is none other than God Himself. No human beings, angels, Demigods, heavenly bodies-in short, no created beings-are possessed of an innate excellence; where excellence exists, it is a gift from God. Thus, if there is anyone at all whom we ought to adore and worship, to whom we ought to feel indebted and grateful, towards whom we should remain humble and obedient, it is the creator of excellence, rather than its possessor.
*3). In Arabic the word Rabb has three meanings: (i) Lord and Master; (ii) Sustainer, Provider, Supporter, Nourisher and Guardian, and (iii) Sovereign, Ruler, He Who controls and directs. God is the Rabb of the universe in all three meanings of the term.